الآية واضحة وصريحة، وعد من رب العزة عز وجل، لصفيه ورسوله الكريم، أشرف خلق الله كلهم، بأن يكفيه شر المستهزئين، ويرد شرهم إلى نحورهم، وبذلك يتفرغ الرسول الكريم إلى دعوته، التى بدأت ب “اقرأ" .. ثلاثا ، كأنما الإسلام هو المعرفة، وليس مصارع الجهل، وتحمل فى جوهرها “ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فهو الموصوف من ربه “وإنك لعلى خلق عظيم"، لذا فإن المسلم، ليس باللعان ولا بالسباب ولا بالفاحش قولا وعملا ، فهل هناك أشد فحشا، من السب واللعن وإهدار الدم بحجة الدفاع عن الرسول، الذى لا يحتاج مدافعين عنه، بعد أن كفاه الله شر القاصى والدانى، ... غير أننا لا نقولها كما قال عبد المطلب “ أنا رب الإبل ، وللبيت رب يحميه" ولا كما قال بنى يهود “اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون" فبئس من يقعد عن الدفاع عن الرسول والدين ، وأيضا بئس من يدافع عن الرسول بهذه الطريقة، التى أهدرت مكارم الأخلاق . جملتان تتنازعان صاحب أى لب، وهو يرى ما نراه، من هؤلاء المسلمين، الذين يدافعون عن الرسول “ص" ، أو يظنون ذلك، الأولى للمفكر الإسلامى رجاء جارودى رحمه الله وهو يقول « الحمد لله أننى عرفت الإسلام ، قبل أن أعرف المسلمين"، والثانية لشيخ الاستنارة المفكر الشيخ محمد الغزالى – رحمه الله – وهو يقول :"نصف أوزار الملحدين فى هذا العالم يحملها متدينون كرَّهوا خلق الله فى دين الله" .. والمعنيان على قسوتهما، ينيران وجها لحقيقة ، إن لم نواجهها، ستتباعد المسافة بين المسلمين وإسلامهم، الذى أمرهم بالمعرفة ، فإذا بهم الأكثر جهلا وأمية والأكثر قعودا عن العلم والعمل، حتى باتت أمة مثل الصين، لا تعرف الأديان السماوية أصلا، ميزان تأثير فى العالم، الذى يضع المسلمين، على هامش الكفتين، خفة منهم وبهم، والذين لا يتم استدعاؤهم، إلا كأسباب للعنف، وتأجيجه، فى مخططات التلكك بأمن العالم ، للاستيلاء عليه وإخضاعه، ولا يخضع غير جاهل أو ضعيف، أو غير ذى همة ، وفى ذلك انظر إلى من يظنون أنفسهم أتباع رسول الله “ص" وحاول أن تجد ما يدل على علم أو قوة أو همة .. ولن تجد إلا استهزاء على استهزاء .. وإساءة على إساءة بترك ما يؤدى إلى صلاح الدين والدنيا، وهما غاية خلق المسلم كما أمره كتاب الله وسنة نبيه. وفى خضم المتناقضات، التى نعيشها، سنجد أمرا غريبا، أنه برغم حالة تقديس كتب الأقدمين وتفسيراتهم، التى يعيشها معظم مسلمى العصر، فإن اللافت للنظر أنهم لا يختارون من “التقديس" إلا ما يناسب عنفهم، ويتركون ما تأسس فى تلك الكتب وتفسيرا أصحابها، والقواعد الأخلاقية الرحبة، فى تعامل المسلمين مع أنفسهم وغيرهم، وخصوصاً فيما يتعلق بالتعامل مع الإساءة، وهو ما يدفعنى أن أنقل تفسيرا للآية مهجورا عن قصد من تلك الكتب . يقول المفسرون الأقدمون : ومن صور حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكفايته إياه استهزاء المستهزئين أن يصرف الشتيمة والذم والاستهزاء إلى غيره.. فإذا بالشاتم يريد أن يشتمه فيشتم غيره من حيث لا يشعر!! قال صلى الله عليه وسلم: ألا ترون كيف يصرف الله عنى شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمدٌ"!)، قال ابن حجر : كان كفار قريش من شدة كراهتهم فى النبى صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون: مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم. ومذمم ليس اسمه، ولا يعرف به، فكان الذى يقع منهم مصروفًا إلى غيره! بل أزيد على ذلك وأنقل تفسيرا آخر يستند لقصة الشاة المسمومة ، إذ يقول المفسرون الأقدمون : ومن صور الحماية الربانية أن يغير الله السنن الكونية صيانة لنبيه صلى الله عليه وسلم ورعاية له. وشاهد ذلك قصة الشاه المسمومة، فهذه زينب بنت الحارث جاءت للنبى صلى الله عليه وسلم، بشاة مشوية دست فيها سمًا كثيرًا، فلما لاك النبى صلى الله عليه وسلم منها مضغة لم يسغها، وقال: “إن هذا العظم يخبرنى أنه مسموم"! ثم دعا باليهودية فاعترفت. فانظر كيف خرم الله السنن الكونية من جهتين: أولاهما: أنه لم يتأثر صلى الله عليه وسلم بالسم الذى لاكه. وثانيتهما: أن الله أنطقَ العظم فأخبره عليه الصلاة والسلام بما فيه. ومن صور الكفاية الربانية لنبى الهدى صلى الله عليه وسلم ممن آذاه، أن يقذف الله فى قلب هذا المؤذى المعتدى الإسلام، فيؤوب ويتوب، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ماله وولده ووالده والناس أجمعين!! ومن أعجب الأمثلة فى ذلك قصة أبى سفيان بن الحارث أخى النبى صلى الله عليه وسلم من الرضاع، وكان يألف النبى صلى الله عليه وسلم أيام الصبا وكان له تربًا، فلما بُعث النبى صلى الله عليه وسلم عاداه أبو سفيان عداوةً لم يعادها أحد قط، وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجا أصحابه.. ثم شاء الله أن يكفى رسوله صلى الله عليه وسلم لسان أبى سفيان وهجاءه، لا بإهلاكه وإنما بهدايته!! قال أبو سفيان عن نفسه: ثم إن الله ألقى فى قلبى الإسلام، فسرت وزوجى وولدى حتى نزلنا بالأبواء، فتنكرت وخرجت حتى صرت تلقاء وجه النبى صلى الله عليه وسلم، فلما ملأ عينيه منى أعرض عنّى بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى. قالوا: فما زال أبو سفيان يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلاً إلا وهو على بابه ومع ابنى جعفر وهو لا يكلمه، حتى قال أبو سفيان: والله ليأذنن لى رسول الله أو لآخذن بيد ابنى هذا حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما فدخلا عليه. فسبحان من حوّل العداوة الماحقة إلى حب وتذلل، وملازمة للباب طلبًا للرضا!! * [email protected]