جلال برجس: إرث مهم لم يتشكل بسهولة عيسى المؤدب: لها سحر خاص فى حياة المؤلف زين خيرى شلبى: أتمنى عمل متحف لأدباء مصر
الأدباء والكتاب والشعراء والمفكرون يرحلون عن عالمنا بأجسادهم، تاركين من بعدهم الكثير من الإرث الثقافى والأدبى والمكتبات العامرة بآلاف الكتب والمؤلفات التى لا نعلم مصيرها بعد رحليهم، والتى يكون الكثير منها أحيانا نادرا، وتحوى أعمالهم الكثير من الأعمال المهداة إليهم، وقد انشغل العديد من الأدباء والمثقفين بمصير هذه المكتبات، وكيفية تصرف الورثة فيها، وإن لم يهد ورثة هؤلاء ما جمعه وألفه هؤلاء الكتاب والشعراء والأدباء، للجهات الثقافية المختصة فى الدولة، فمصيرها يكون إما التفريط فيها وبيعها، وهو ما نجده حاليا على الكثير من الأرصفة، أو أن يعلن ورثة كاتب أو أديب أو مفكر عن بيع مكتبته بالكيلو لأحد تجار الروبابيكيا.
كانت دار الكتب المصرية قد خصصت قاعة فيها للمكتبات المهداة من الأدباء والمفكرين فى حياتهم، وتلك التى أهداها أسر هؤلاء الكتاب إلى الدار، حيث تضم القاعة 17 مكتبة مهداة إلى دار الكتب المصرية، أبرزها مكتبتا العقاد وعبد الرحمن الرافعي، وغيرهما من الكتاب، إلا أنه لا يزال هناك العديد من المكتبات التى ما زال الورثة يحتفظون بها، ولم توضع فى مكتبات عامة للاستفادة منها، مثلا مكتبة الكاتب الراحل توفيق الحكيم، وغيره من الكتاب.
ويرجع البعض عدم تحبيذ الورثة لتحويل تلك المكتبات الخاصة بالأدباء والكتاب إلى مكتبات عامة، كونهم يتعللون بعدم اهتمام الدولة بها فى حال تسليمها للجهات المختصة.
يقول الكاتب والصحفى زين العابدين خيرى شلبي، نجل الروائى الراحل خيرى شلبي: بخصوص مكتبة الراحل خيرى شلبى فنحن نحتفظ بها كما تركها، لأننا نرى أنها من حق أبنائه وأحفاده طالما يستفيدون منها حتى الآن، وكان هذا الرأى أيضا لخيرى شلبى قبل رحيله، وربما فى المستقبل إن عرضت إحدى الجهات الاستفادة منها بشكل آخر، ربما وقتها نفكر فى تغيير ما اتفقنا عليه. وأضاف: كان هناك تواصل سابق مع الدكتور خالد عزب ممثلًا لمكتبة الإسكندرية بخصوص جمع مخطوطات خيرى شلبى لعمل قسم خاص بها فى المكتبة، ولكن لم تتم أية إجراءات فعلية بهذا الخصوص لأسباب تخصنا كأسرة، حيث لم نقم بعد بتجميع وأرشفة هذه المخطوطات قبل تسليمها للمكتبة.
ويشير زين العابدين إلى أنه بصفة عامة يتمنى عمل متحف كبير مجمع لأدباء ومفكرى مصر الكبار، وليكن اسمه متحف الأدباء أو متحف الكاتب المصري، يتم فيه تجميع مقتنيات وكتب الأدباء الكبار عبر تاريخ مصر، مع إصدار موسوعة شاملة تضم كل شيء عنهم وعن أعمالهم وتاريخهم بعدة لغات، لتسمح للزائرين والمهتمين من المصريين والأجانب بمعرفة كل شيء عن الأدب والأدباء المصريين عبر التاريخ.
أما الروائى التونسى محمد عيسى المؤدب فيقول: فى الحقيقة المكتبات الخاصّة لها سحر خاص فى حياة الأديب أو المفكّر، يظلّ يؤثّثها طيلة مسيرته الأدبية ويصطفى أمّهات الكتب التى تفيد تجربته وتثريها، وهذا السّحر لم يتضاءل فى العصر الحديث برغم هجمة وسائل الاتّصال الحديثة خصوصا الكتب الإلكترونيّة.. تلك المكتبات تشعر الأديب بسعادة قصوى، إذ هى تتوفّر على كتبه وعلى الكتب المهداة له، بالإضافة إلى الكتب المهمّة فى أنشطته وكتاباته.. لكنّ السؤال الحارق، ما مصير تلك المكتبات الخاصّة بعد رحيل أصحابها؟
الواقع – يقول المؤدب - إنّ الخوف من إهمالها أو إتلافها أو بيعها دفع بالكثير من الأدباء والمفكّرين فى تونس إلى إهدائها إلى مؤسّسات تربويّة أو ثقافيّة.. كثيرة هيّ الأمثلة فى هذا الإطار، نذكر مثلا عائلة المفكر التونسى ووزير التربية والعلوم السابق المرحوم محمد الشرفى التى أهدت جزءا من مكتبة الشّرفى الخاصّة الى مكتبة كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، كما أهدى الباحث والأديب أبو القاسم محمد كرو 12 ألف كتاب من مكتبته الخاصّة لنفس الكليّة.. وشخصيّا أفكّر أنا بدورى فى أن أهدى مكتبتى الخاصّة ذات يوم إلى إحدى المؤسّسات التّربويّة التى درست بها خدمة للبحث والفكر والإبداع.
من جانبه يؤكد الروائى والقاص العراقى الألمانى هيثم نافل والى أن المكتبة المنزلية كانت ولا تزال تعنى له الكثير، بل تجاوزت حدودها ومعناها المعنوى الفكرى وأصبحت مع الوقت جزءا لا يتجزأ من حياته كزوجته وأولاده حتى إنه قد كتب قصة قصيرة لها بعنوان “البحث عن الهدف” وكيف سعى للبحث عن الكتب فى إحدى رحلاته داخل القاهرة. يضيف نافل: أعيش فى الغربة منذ أكثر من 27 عاماً وصديقى بعد زوجتى وأولادى كتبي! لا يمكن لى التخلى عن هذه الصداقة المزمنة التى ناهزت عمرها الأربعة عقود، علاقة تجعلنى أعطيها من وقتى يومياً ساعتين إلى ثلاث. يعرف كل من يعرفنى بأن مكتبتى المنزلية كمطبخ العائلة لا يمكن التخلى عنها، فهى الغذاء الروحى والفكرى، بعد رحيلى ستكون كتبى حصة زوجتى دون نقاش، ولم أقل أولادى لأنهم فى بلاد الغربة قد ولدوا.
أما الروائى والكاتب الليبى أحمد الفيتورى فيقول: إن حرص أمى الأمية على الكتاب جعلها تهرب لى فى السجن كتبا، منها كتاب للينين، ما كان تهمة خطرة، حين خرجت وجدتها حاضنة لكتبي، هذا الحرص جعل الكتاب عندى أعز، فأصابتنى لوثة تملك الكتب واقتنائها بغض النظر عن حاجتى لها.
لكن هذا لم يمنع أنى تبرعت بمكتبة صغيرة لفرقة مسرحية، ومرة تبرعت لصديق بمكتبة مسرحية لأنه مهتم بالمسرح أكثر منى وزعم أنه يعد كتابا عن المسرح، عليه فقد فكرت كثيرا فما سيحدث لمكتبتى بعدى وحتى الآن أخطط فى أن يكون بيتى وكتبى مكتبة عامة لا تعير الكتب لكنها توفر أفضل الفرص للاطلاع عليها، هذا ما آمل أن تكون عليه مكتبتي. ويؤكد الروائى الجزائرى واسينى الأعرج، أنه فى رحلته الحياتية المتنقلة وغير المستقرة كون مكتبات كثيرة، كلها تدين إلى أول كتاب امتلكه فى حياته، غير الكتب المدرسية، هو “ألف ليلة وليلة” وله قصة طريفة.
يقول الأعرج: فى الفترة الاستعمارية دخلت إلى المدرسة وكان التعلم كله باللغة الفرنسية، رأت جدتى أن تدخلنى إلى المدرسة القرآنية لتعلم اللغة العربية، والتحقت بالكتاب صباحا أتعلم العربية فى المدرسة القريبة وبدءا من الثامنة فى المدرسة الفرنسية، تعلمت فى المدرسة القريبة الكتابة والقراءة على اللوح، وعندما تعلمت كبقية أترابى وضعنى الشيخ الذى ندعوه سيدي، فى آخر الصف ومكننى من قراءة القرآن وكانت فى زاوية صغيرة عشر نسخ من المصحف واحدة فيها كانت ممزقة قليلا فلا أحد من الصغار يهبط نحوها، فى يوم من الأيام سرت نحوها لأن كل النسخ الأخرى كانت قد أخذت من تلاميذ آخرين، بدأت أقرأها فسحرت بها لأن اللغة بدت سهلة، ولم أستطع أن أترك المصحف ففكرت فى سرقته، وسرقته.
وذات يوم سألنى أحد أقاربى ماذا تقرأ؟ قلت له بعفوية طفل: القرآن ثم أخذ الكتاب منى وعندما فتحه بدأ يضحك بأعلى صوته، سألته لماذا تضحك؟ أجابني: هذا ليس قرآنا لكن ألف ليلة وليلة، كان هذا النص المسروق هو حجر الأساس لمكتباتى اللاحقة، لكن أولاها عندما كنت طالبا فى الجامعة، كنت شغوفا بالقراءة، جئت من مدينة أندلسية، تلمسان، التى تشكل فيها القراءة جزءا مهما من النشاط اليومي.
ويضيف الأعرج: كنت أذهب فى المدينة إلى مركزين مهمين وأنا طالب فى الثانوية، المركز الثقافى البيداغوجى الذى كان يعيرنا كتبا بالفرنسية وفيه قرأت فى وقت مبكر كتابات سارتر على وجه الخصوص لدرجة تلبستنى فلسفته الوجودية، وقرأت فى المركز الثقافى للحزب كل الكتب باللغة العربية لطه حسين، توفيق الحكيم، جبران، المنفلوطى ما شكل لدى مخزونا ثقافيا مهما إضافة للمجلات القصصية المصورة التى شجعتنى على قراءة القصص العالمي، وبدأت أملها، وكونت مكتبة صغيرة فى المرحلة الثانوية، وبمجرد أن ذهبت إلى الجامعة اتسعت هذه المكتبة وأصبحت أدبية وفكرية. يشير الأعرج أن مكتبته فيها الكثير من الأيديولوجيا يتصدرها رأس المال لماركس وكتابات لينين وماياكوفسكي، وناظم حكمت، وكتاب الثورة الإسبانية للوركا مثلا، وغيره، وتكونت مكتبتى الأولى، وعندما سافرت إلى الشام كونت مكتبة كبيرة هناك لأننى مكثت هناك عشر سنوات ونقلت قسما كبيرا من كتبى إلى الجزائر بعد الانتهاء من دراستى العربية هناك ومناقشتى للدكتوراه. وعندما أقمت فى باريس منذ قرابة ربع قرن كونت مكتبة أخرى وبها آلاف الكتب أيضا، وأفكر حقيقة فى إهدائها لابنى ولمركز أو مكتبة هنا بباريس وفى الجزائر أفكر فى منح جزء للمكتبة الوطنية ولجامعتى التى درست فيها، لكن هل مكتبات الغد ستظل ورقية؟ فى بيتى كل ديكورى هو مكتبتى التى أعتز بها، ولكننى واع بأن مكتبة الغد ستكون افتراضية ولن نكون فى حاجة للكتاب الورقى إذ يكفى تخزينها فى الحاسوب آلاف الكتب ملايين الكتب دون السرقة من الفضاء، حالة تحتاج إلى التأمل.
من جانبه يرى الروائى الأردنى جلال برجس أن المكتبة إرث مهم لم يتشكل بسهولة لصاحبها، إنها نتاج اختياراته وذائقته القرائية فقد تجد فيها جانباً من التنوع لكن لا بد برأيى أن سمة معينة تميزها سواء كانت فكرية أم أدبية أو سياسية، لذلك يمكننى القول إنها أهم مقتنيات الكاتب، ومتنفس روحه وعقله وقلبه، لذلك ليس من السهولة على أنا شخصياً أن أتخلى عنها، ففى كل ركن شيء يعنينى وكان له الأثر فى تشكيل وعيي.
ويضيف برجس: لهذا يمكننى أن أسحب هذا الرأى على أصحاب المكتبات الذى رحلوا عن دنيانا، وأرى إن كان لابد لورثة الراحل أن يتصرفوا بهذا الإرث فليتصرفوا معه بطريقة تليق كأن يقومون بإهداء تلك الكتب لمن يستحقونها سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات ثقافية أو مكتبات، وأرى أن تلك الإهداءات يجب أن تكون مدروسة، وتذهب لأكثر من شخص وأكثر من جهة، حدث أن ألقيت مكتبات فى حاويات القمامة، وهذا برأيى ترد حضاري، وإشارة خطيرة على الهوة ما بين من فعل ذلك وما بين الكتاب.