خلف هذا الكم الهائل من التجاعيد الذى هو بعمق عدد سنوات عمرها ال 64، التى لم تفلح مستحضرات التجميل الفرنسية ذات الصيت العالمى فى إخفائها، وتحت هذا الشيب الذى يعلو رأسها الذى يتوارى بالكاد خلف أغلى أنواع الصبغات الفرنسية، أيضا تقبع عقلية أقل ما توصف أنها عقلية فذة. ربما لم يلتفت إليها الكثيرون إلا أخيرا، لكنها شدت العديد من الأنظار إليها يوم 2 يونيو عام 2015 عندما حضرت مع زوجها – الذى كان وزيرا آنذاك - مأدبة العشاء التى أقيمت على شرف الملك فيليب ملك إسبانيا وزوجته، حيث لفتت الأنظار بشخصيتها وقصة الحب التى جمعت بينها وبين زوجها، خصوصا أنها تكبره بربع قرن!! إنها بريجيت ماكرون، زوجة الرئيس الفرنسى الحالى إيمانويل ماكرون.
“بهرنى بذكائه ونضجه المبكر وبإصراره على الزواج منى برغم أننى كنت متزوجة ولدى 3 أبناء، اثنان منهما أكبر منه فى السن، وفى النهاية لم أستطع المقاومة وتزوجته”. بهذه الكلمات وصفت بريجيت - أو “بيبي” كما يحب ماكرون أن يناديها – علاقتها بزوجها الحالي. والواقع أنه لا أحد يستطيع حتى الآن معرفة الأسباب الحقيقية وراء سقوط “إيمانويل” فى حب “بريجيت” التى لم تكن فى الواقع سوى سيدة متزوجة وتكاد تقترب من عمر والدته، بل الأدهى أنها كانت معلمته التى تقوم بتعليمه فنون الدراما والمسرح، حيث كان يتشارك مع ابنتها فى نفس المقعد الدراسى فى الفصل. وبدلا من أن يقع - وهو ابن ال 15 ربيعا - فى حب الابنة ذات الجمال اللافت للنظر وقع فى حب أمها التى لم تكن فى يوم من الأيام تحمل من الجمال أى علامات تذكر، لكنه نداء القلب كما يسمونه فى الغرب والنصيب كما يسمونه فى الشرق.
لم يكن إيمانويل يمثل لبريجيت سوى شاب بهرها بوسامته وشبابه وحيويته وذكائه الذى فتنها. ففى هذا الوقت لم تكن لإيمانويل أية ملامح تشير إلى طريقه المستقبلي. فأى طريق هذا لفتى لم يبلغ بعد السادسة عشر من عمره.
أما هى فكانت على العكس، فهى امرأة ناضجة ومن أسرة ثرية ورثت واحدا من أكبر مصانع الشيكولاتة، كما أنها متزوجة من أحد كبار المصرفيين الفرنسيين الذين يشار إليهم بالبنان ولها منه ثلاثة أبناء، أكبرهم كان يدرس الهندسة الإحصائية وثانيهم كانت فى طريقها لدراسة أمراض القلب وثالثهم كانت تلميذتها فى دراسة المسرح قبل أن تتجه إلى المحاماة. كل هذه المعطيات لم تكن لترجح أبدا كفة حب إيمانويل لها، لكنه نداء القلب كما سبق أن ذكرنا الذى جعلها تترك كل هذا وتذهب للعيش معه كعشيقة قبل أن تطلب الطلاق رسميا، لتتزوج من فتاها الوسيم فى العام التالى على التوالى بعد الطلاق رغما عن أسرته التى فشلت فشلا ذريعا فى محاولة التفريق بين هذا الثنائى غير المتكافئ نهائيا. ففى بداية العلاقة العاطفية وبضغط من والديه لقطع علاقتهما انتقل ماكرون إلى باريس لإتمام دراسته الثانوية، لكن التواصل بينه وبين مدرسته استمر وتقول بريجيت إنه قبل رحيله همس لها قائلا “مهما فعلت، سأعود وسأتزوجك”.
وبالفعل عاد وتزوجها عام 2009 عندما بلغ ال 30 من عمره، بينما كانت هى كادت تقترب من ال 55 من عمرها، ويبدو أنها كانت رمز الحظ السعيد بالنسبة له برغم هذا الفارق الشاسع فى العمر، إذ سرعان ما تدرج فى المناصب السياسية، حيث انضم بين عامى 2006 و2009 للحزب الاشتراكى، ثم عين فى 2012 نائبًا للأمين العام لرئاسة الجمهورية الفرنسية لدى الرئيس فرانسوا أولاند، ثم وزيرًا للاقتصاد والصناعة والاقتصاد الرقمى فى حكومة مانويل فالس الثانية وذلك حتى 2016.
فى إبريل 2016 أسس حزب “إلى الأمام” ذا التوجهات الوسطية. ثم فى 16 نوفمبر الماضى، أعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017. انتقل للجولة الثانية من الانتخابات بعد مجيئه فى المرتبة الأولى، بفارق صغير عن مرشحة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة مارين لوبن. حيث حصل على دعم كل من مرشح حزب الجمهوريين اليمينى فرنسوا فيون، ومرشح الحزب الاشتراكى اليسارى بونوا أمون. وفاز فى الانتخابات فى 7 مايو 2017 بعد فوزه على مارى لوبن بنسبة 66 % فى الانتخابات الرئاسية. وتولى رسمياً فى 14 مايو 2017 سلطاته الدستورية رئيساً للجمهورية الفرنسية .
بعد فوز زوجها إيمانويل ماكرون 39 عاما بالرئاسة فى فرنسا، صارت بريجيت، 64 عاما، سيدة فرنسا الأولى، ليكونا بذلك أول ثنائى خارج إطار المألوف يدخل الإليزيه لفارق السن الكبير بينهما، والذى أثار فضول الصحافة فى فرنسا وخارجها على مدى الحملة الانتخابية.
وفى يوم التنصيب الذى شاهده العالم أجمع، وصلت الزوجة إلى القصر قبيل زوجها للاطمئنان على جميع التفاصيل الدقيقة المحيطة بالحفل كما هو المتبع دائما، ولم تكن تلك هى المرة الأولى التى تقف فيها الزوجة إلى جوار زوجها، فلقد سبق أن آزرته بشدة إبان حملته الانتخابية، سواء بإدارة جدول أعماله أم تحرير خطبه أم تقديم النصح له، وقد رد لها ماكرون الجميل عندما استغل إلقاء خطاب النصر بعد فوزه فى الجولة الأولى من الانتخابات ليطلب منها الصعود إلى المنصة ليشكرها علانية أمام الجميع ويصفها بأنها حاضرة دائما، ولولاها ما أصبح ما هو عليه الآن.
ويؤكد المقربون لبريجيت أنها “امرأة إيجابية تبتسم دائما ولم تتكلم يوما بالسوء عن أحد، ولا يوجد أحد اقترب منها ولم يعجب بها وبشخصيتها، فهى رصينة جدا ومثقفة، ولعل هذا ما جعل ماكرون يستشيرها دوما فيما يفعله، خصوصا الجمل المستخدمة فى خطبه، فهو لم ينس أبدا أنها أستاذته ومدرسته التى أصبحت زوجته، ليشكلا ثنائيا متماسكا لم يمنع بريجيت ألا توافقه الرأى عشرات المرات دون أن تخشى غضبه، فهى ترى أنها محظوظة لأنها شريكة إيمانويل فى الحياة، حتى لو لم يكن لديها خيار فى المعترك السياسي”. وبرغم ذلك فهى ستلعب دورًا مهما فى إدارة زوجها الجديدة، ويتوقع أن يرتكز اهتمامها الأكبر على مجال التعليم للأطفال المصابين بالتوحد والمحرومين اجتماعيا وإصلاح التعليم بوصفها معلمة سابقة. فهى تعرف الشباب جيدا، وتعتقد أنه أمر ضرورى أن تضعهم فى الاعتبار.
وقد أعربت إيمانويل عن شدة مساندتها لزوجها فى 2016 عندما قالت فى حديث لمجلة “بارى ماتش” “كل مساء نتبادل المعلومات وما سمع أحدنا عن الآخر، فعلى أن أكون متنبهة لأدق التفاصيل، وأن أبذل قصارى جهدى لأحميه”..
فى النهاية يمكننا القول إن بريجيت صنعت من إيمانويل رجلا آخر، فهى لم تمنحه الاستقرار العاطفى والمنزلى فقط، ولا تكتفى بإسداء النصح إليه، لكنها فتحت أمامه عالما كبيرا من الثقافة الفرنسية، وذلك عندما أدخلته فى عالم السينما والمسرح، كما أنها عكست عليه روحها التلقائية وردودها الطبيعية التى تميزت بها فى كل مواقفها وتصرفاتها، ما جعل الرئيس يظهر فى أعلى درجات الإنسانية والعشق فى آن واحد لهذه الزوجة العملية إلى أبعد الحدود، التى تجمع على حد تعبيره بين الرقة والمَرَح والشدة والانشراح والأنوثة، وهو كل ما يحلم به ماكرون، لذلك فهو يحرص على اصطحابها معه فى كل ظهور علنى له.. إنها المرأة العظيمة التى تقف وراء كل زوج ناجح.