بات من الواضح - لنفسى على الأقل - أننى كنت على حق عندما اتخذت قرارا بالابتعاد تماما عن الحديث فى الشأن السياسى فى هذه الزاوية الأسبوعية طيلة شهر رمضان الفضيل . فالقضايا السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية فى مصر والعالم العربى بل والإسلامى صارت تؤدى فى النهاية إلى حالة من الحزن المقترن بالغضب المرتبط بالأسى والأسف على حال الشعوب العربية التى يبدو حاضرها غائما تماما لا يدرى أحد إلى أين يتجه وبالتالى تزايد غموض المستقبل الذى تشير كل الدلائل والأدلة إلى أنه يبدو أسوأ بكثير جدا وأكثر سوادا – بكل أسف - من الحاضر. إذ يبدو أنه لن يكون لنا سوى الماضى نتحاكى عنه ونتفاخر بشأنه فحسب . وفى ظل صراعات تعيشها تقريبا كل الدول العربية من دون استثناء شرقا وغربا وشمالا وجنوبا نجد الضياع والحيرة والخوف من المجهول هو المسيطر على كل الشعوب العربية، أعانها الله بعد ما كانت فى معظمها تظن أنها مقبلة على ربيع عربى على حد الوصف الذى أجراه على ألسنتنا – وهما – هؤلاء الذين رتبوا وخططوا لكل ما يجرى على الأرض فى انتظار اللحظة المناسبة للانقضاض على الشرق الأوسط كله للسيطرة على ثرواته بعد ثوراته “ المتوهمة “. وحتى لا تأخذنا السطور إلى مزيد من الحديث والبحث فى تلك الأمور السياسية «المزعجة»، دعونا نعود إلى حيث توقفنا فى الأسبوع قبل الماضى فى الحديث عن خلق الكون لما انتهينا إلى أنه : “ومادام الله سبحانه أعطى الكون كله من روحه إذن فالطاقة الموجودة فى الأرض ظاهرها وباطنها وفى السموات وما بينهما هى من روح المولي سبحانه جل شأنه “.. ونظرة سريعة إلى ما خلق الله سنجدنا بالترتيب ننتقل من الجماد ممثلا فى الأرض وما فى داخلها من أرزاقها وما حولها من أقواتها وهى الهواء والماء وحتى تكون الأرض حية بمعنى قادرة على أداء المهمة التى خلقت من أجلها نجد المولى سبحانه وقد قدر لها وفيها ما يبقيها حية من خلال أرزاقها الموجودة فى باطنها من عشرات إن لم يكن مئات الآلاف من الحبوب ومن خلال أقواتها، وهى ماؤها وهواؤها الذى يسمح للنبت الطالع من الأرض بالنمو .ودليل وجود روح من الله سبحانه وتعالى فى الأرض هو أنها تنتج الحياة من داخلها للنبات الذى ينمو، وهل هناك دليل على الحياة أكثر من النمو فالموتى لا تنبت لهم ذقون ولا شوارب . والنبات ذاته معتمدا على أقوات الأرض من شمس وهواء وماء ينمو ويكبر وينتج بذور تكاثره التى تتيح له الاستمرار حتى لو لم يكن هناك إنسان يقوم بذلك . ولنتتبع برتقالة تنمو وتنضج فى شجرة برتقال وبعد اكتمال نضجها تماما تسقط من العنق فى توقيت محدد تصبح فيه ثمرة البرتقال أثقل من أن يتحملها الفرع الصغير من الشجرة . وبمجرد سقوطها تكون الروح قد انتزعت وبعد سقوطها على الأرض وهى ممتلئة مستديرة جامدة تفاجأ بها تنشق من تلقاء ذاتها ثم تبدأ بفعل الهواء والماء والتراب فى التعفن ثم تتبخر السوائل داخلها شيئا فشيئا: حتى تجف تماما وتتحول بأكملها إلى تراب باستثناء البذور التى تجف فتصبح خفيفة تماما فى انتظار أن يحملها بعض الهواء ليأخذها إلى حيث ترشق فى أرض أخرى لتنبت شجرة جديدة . . وهى نفس المراحل التى يمر بها إنسان فى موته إلى أن يصير ترابا على عكس ما كانت بداية الإنسان الأول . فالموت يبدأ بخروج الروح من الجسد ثم يتصلب الجسد “ صلصال كالفخار “ وبعد دفنه فى التراب يبدأ فى التعفن “حمأ مسنون “ ثم التحلل شيئا فشيئا وبعدها تتبخر كل السوائل من الجسد المتعفن فيعود إلى مرحلة الطين، ويستمر تبخر السوائل حتى يتحول الجسد إلى تراب .. وهكذا نرى أمامنا الرحلة العكسية للخلق الأول من تراب من طين من حمأ مسنون “ طين متعفن “ من صلصال كالفخار ثم نفخة الروح من الخالق سبحانه . ولو عدت ثانية لأدركت كيف أن مراحل خلق الإنسان تتأكد من مراقبة مراحل موته. عودة إلى النبات بوصفة الدرجة الثانية بعد الجماد فى مخلوقات الله نجدنا أمام آيات القرآن المعجز حيث يقول سبحانه فى سؤال تأكيدى لا يملك أحد إجابة له على وجه الإطلاق سوى بالإيجاب : “أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون “ الواقعة – الآية 64 . فالبشر قد ينثرون البذور ويحرثون الأرض ويروونها بالماء أما الزرع بمعنى خلق الحياة أو الزرع فهو لا يكون إلا بقدرة الذى يقول للشيء كن فيكون . وكما كانت الأرض وما فيها وما حولها مقهورة من أجل النبات، يأتى دور النبات بالمقهور له من أرض وشمس وهواء وماء نجد النبات مخلوقا من أجل الحيوان الذى يقهر الله له داخل جسده أعضاء تبقيه على قيد الحياة “قادرا على أداء المهمة التى خلق من أجلها" مثل القلب والرئتين والعينين والجلد والصوف فوقه والعظام وكلها مقهورة من أجل الحيوان ثم يأتى سيد الكون آدم المقهورة من أجله الأرض والسماء والنبات والحيوان. ويقول المولى سبحانه : “ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" فى دليل يقينى أن الله جلت قدرته لا يخلق شيئا إلى ويضع فيه أسباب استمراره وتكاثره ولهذا فهو – سبحانه – من كل شيء خلق زوجين . والمعجز أن “كل" هنا تعنى الشمول والإحاطة لم تتوقف فقط على الماديات وإنما امتدت إلى غير الماديات من معنويات بل حتى فى الكلمات والتعبيرات . وإذا كانت زوجين واضحة فى كل الثدييات بما فيها الإنسان فإن الزوجان فى التيار الكهربائى من خلال الزائد والناقص أو الموجب والسالب ونقطة الماء من عنصرين وذرة الهواء من عنصرين . الشيء الوحيد الذى لاتوجد فيه أسباب تكاثره هى المرأة . وتعالوا إلى الإعجاز القرآنى الذى يتضح من استخدام الفعل جعل وليس خلق لنفهم كيف أن المرأة فى كتاب الله مجعولة لا مخلوقة، ببساطة لأنها لا تحوى فى داخلها بذور تكاثرها . ففى سورة الزمر الآية الرابعة عشرة يقول سبحانه :" خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية ازواج “ .. ومرة ثانية فى سورة الأعراف الآية السادسة يقول جل وعلا : “هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا." وألآيتان هنا تتحدثان عن الجعل العضوى وليس المجازى لخلق حواء. ومعنى الجعل هو الإيجاد من موجود أما الخلق فهو الإيجاد من عدم . والخلق يعنى توافر زوجين اثنين . ولهذا فلا مندوحة من التأكيد على أن حواء إنما جعلت من ضلع من ضلوع آدم عليه السلام . ولابد أن الضلع كان هو الأكثر انحناء أو اعوجاجا فى الاستدارة لحماية الصدر والقلب بداخله . أما المرة الوحيدة التى ورد فيها الفعل خلق مرتبطا بحواء فكان المعنى فيه معنويا مجازيا، وهو ما ورد فى سورة النساء الآية الرابعة : “ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء".. أقول قولى هذا مؤكدا أن العليم هو الله والعلم عند الله .. وإلى مزيد إن كان فى العمر مزيد .