نستكمل ما قدمنا فى شهر رمضان الفائت من حلقات تحت عنوان “الليل وأهل الليل “، استعرضنا فيها ذلك السر المدهش العجيب لليل وشأن الليل، وكيف أنه صديق العشاق والشعراء، ووطن الصوفى، وأهل اللهو والسُكر والطرب والغناء، وهو الساتر للصوص والسراق وقطاع الطريق، وكذا فضل الليل على النهار. فى بهاء ضريح السيدة نفيسة بالقاهرة، وفى المنطقة التى سماها المصريون باسمها وكانت تسمى قديماً “درب السباع”، سر عجيب لا يشعر بلذته الروحية سوى قلب محب ونفس تطير كفراشات الضياء فى العشق الإلهى، وحب آل بيت رسوله صلى الله عليه وسلم . ستأخذنا الدهشة إذا علمنا السر المكنون وراء هذا الحضور المتفرد لقبر حفرته صاحبته بأصابعها الدقيقة الرقيقة فى إحدى غرف بيتها، ثم أقامت الليل فيه تصلى وتقرأ القرآن الكريم، حتى إنها ختمت المصحف الشريف به مائة وتسعين مرة، وأسلمت فيه الروح فى الليلة الخامسة عشرة من رمضان 208 من الهجرة، وذلك بعد وفاة الإمام الشافعى بأربع سنوات لماذا نذكر وفاة الشافعى رضى الله عنه دون غيره؟ والذى أوصى أن تصلى عليه السيدة نفيسة بعد موته، سنعلم السر فى سردنا لسيرتها . قد لايعلم هذا السر الدفين كما ذكرته كتب تأريخ سيرتها العطرة أحد من الناس إلا من يعيش معها وإلا فمن أين عَلمنا وعَلم المؤرخون قبلنا بذلك؟ تقول شاهدة العيان زينب ابنة أخيها يحيي المتوج بالأنوار: “ خدمت عمتى نفيسة أربعين عاماً، فمارأيتها نامت بليل، ولا أفطرت بنهار إلا العيدين وأيام التشريق، فقلت لها: أما ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسى وأمامى عقبات لا يقطعها إلا الفائزون . وتصف زينب، لحظات وفاة السيدة نفيسة: “ فى شهر رجب عام 208 من الهجرة اشتد عليها المرض وكانت رقيقة الحال من كثرة الصوم والسهر ليلاً ، حتى جاءت ليلة الخامس عشر من شهر رمضان، وكانت تقرأ سورة الأنعام حتى بلغت الآية 127 التى يقول فيها رب العزة :”لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون” غشى عليها، فضممتها إلى صدرى، فتشهدت شهادة الحق، وصعدت روحها إلى باريها فى السماء “ عن ثلاث وستين سنة وهى عمر جدها النبى الكريم وخليفته الصديق وأمير المؤمنين عمر وجدها أمير المؤمنين على بن أبى طالب فى الحادى والعشرين من شهر رمضان، وبلال مؤذن الرسول، وفى حديث أبى هريرة، يقول النبى صلى الله عليه وسلم مُعْتَرك المنايا مابين الستين والسبعين. أجمعت المصادر أنه لما فاضت روحها، أراد زوجها إسحاق بن الأمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام على زين العابدين بن الإمام الحسن بن أمير المؤمنين الإمام على بن أبى طالب رضوان الله عليهم جميعاً وكان يلقب بإسحاق المؤتمن، أراد أن ينقلها إلى البقيع، إلى جوار جدها صلى الله عليه وسلم فحزن المصريون وتجمعوا عند بيتها، وتوسلوا لزوجها، أن يدفنها فى مصر فأبى لشرف دفنها بالبقيع، ولكنه رأى فى نومه الرسول الكريم يأمره بدفنها فى مصر، فدفنت فى قبرها الذى حفرته بيديها، وختمت فيه القرآن كما أسلفنا مائة وتسعين مرة . لا جديد إذا قلنا أنها رضي الله عنها كانت تحفظ القرآن الكريم، بل كانت تفسره ولها فى آياته مواجيد جعل العلماء يذهبون إليها ليستضئوا بكلامها، وعلى رأسهم الإمام الشافعي، الذى كتب شعراً يقول فيه : ياآل بيت رسول حبكم ُ فَرض من الله فى القرآن أنزله يكفيكمُ من عظيم القدر أنكم ُ من لم يصل عليكم لا صلاة له روى عنها صاحب كتاب “كريمة الدارين” النبوى جبر سراج، المكتبة التوفيقية بالباب الأخضر بسيدنا الحسين، وذكرها المؤرخ أحمد بن يوسف القرمانى فى تاريخه، وشمس الدين الذهبى فى موسوعته “ سير أعلام النبلاء” وغيرهم . أنها كانت تتعلق بأستار الكعبة الشريفة فى حجها وتناجى رب العزة: إلهى وسيدى ومولاى، متعنى وفرحنى برضاك عنى، ولا تسبب لي سبباً يحجبك عنى”. فما هى قصة عابدة الليل، صائمة النهار، السيدة نفيسة سليلة آل بيت النبى صلى الله عليه وسلم الذين ذاقوا الأمرين من خلفاء بنى أمية التى بدأها معاوية بن أبى سفيان وابنه يزيد ومن خلَفهما بمقتل أمير المؤمنين على بن أبى طالب، ثم القتل والتنكيل والمثلة بسيد شباب أهل الجنة الحسين بن على، وقبله دس السم لأخيه الأكبر الإمام الحسن، بعدما جندوا زوجته لتلك الجريمة الشنعاء. وبعد زوال بنى أمية جاء العباسيون فلم يكونوا أقل غلظة بمن بقى من آل البيت النبوى، خشية على مُلكهم من حب الناس لهم، حتى اضطروهم لهجرة المدينةالمنورة جوار جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برغم أن أبى جعفر المنصور عندما تولى الحكم العباسى أراد أن يعدل بعض الشىء عن نهج أسلافه فعين والدها الإمام الحسن الأنور والياً على المدينةالمنورة، ولكنه سرعان ماغضب عليه وعزله، خشية التفاف الناس حوله . ومن هنا جاء التفكير فى المجىء إلى مصر، وكانت فى حينها جنة الله فى أرضه التى يحلم الحالمون بالخيرات الإقامة فيها، وفى طريق هجرتهم مرورا بفلسطين حيث قبر خليل الله إبراهيم، وكانت أمنية السيدة نفيسة أن تزوره، بعدها سلكوا الطريق عبر ساحل سيناء إلى العريش، ولما علم المصريون هرعوا إليهم فى أحسن استقبال . وكان لا يفصل مصر فى حينها عن الأراضى الحجازية أية موانع مائية، حتى جاء الاحتلال الصهيونى وإعلان دولة إسرائيل عام 1948، فكان ماكان . ولدت السيدة نفيسة بمكةالمكرمة عام 145 من الهجرة، وظلت بها خمس سنوات، حتى اصحبها والدها إسحاق المؤتمن الذى ينتهى نسبه إلى الإمام الحسن بن على بن أبى طالب، وأمها زينب الذى ينتهى نسبها إلى الإمام الحسين بن الإمام على بن أبى طالب، للحياة فى المدينةالمنورة، فكانت تذهب إلى المسجد النبوى تسمع من شيوخه، وتتلقى الحديث والفقه حتى لقبها الناس بنفيسة العلم لفصاحتها برغم صغر سنها، وبعد أن بلغت سن الزواج كان إسحاق المؤتمن هو الفائز بزواجها، برغم كثرة من تقدموا إليها، فقد شفع له كونه من سلالة أهل البيت النبوى وحسن سيرته بين الناس. التقت بفحول العلماء وأئمة الفقه، وشيوخ الزهاد والعُبْاد أمثال بشربن الحارث المشهور ببشر الحافى، والإمام أحمد بن حنبل والإمام الشافعى، كما التقت الإمام مالك وعبدالله بن الحكم، وأبى سعيد سحنون بن سعيد الفقيه المالكى، والربيع بن سُليمان المرادى، والربيع الجيزى، من أصحاب الإمام الشافعى، وغيرهم الكثير . كان للسيدة نفيسة الأثر العلمى الكبير فى فقه عَالِمين كبيرين من أئمة المسلمين، هما الإمام الشافعى والإمام أحمد بن حنبل . وفدت إلى مصر عام 193 من الهجرة، ووفد الشافعى إلى مصر بعدها بخمس سنوات، بلا ترتيب أو قصد . ولد الشافعى فى غزة بفلسطين عام 150هجرية، ولم تكن غزة موطن آبائه وإنما كان أبوه إدريس قد ذهب إليها لحاجة أو تجارة، فمات هناك قبيل ميلا ابنه “محمد الشافعى”، وبعد فطامه واحتماله مشاق السفر حملته أمه إلى مكة موطن أجداده، حيث يلتقى مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى جده “عبد مناف” الجد الثالث للنبى الكريم، والتاسع للشافعى. حفظ موطأ إلامام مالك بن أنس، وهو صبى ثم ذهب إلى المدينةالمنورة ليلتقى إمام دارالهجرة يقرأ عليه كتابه ويأخذ عنه العلم . وظل معه حتى مات الإمام مالك 179هجرية، ثم تنقل بين اليمن والعراق والحجاز واستقر به المقام فى مصر، وفيها توفى عن أربع وخمسين سنة فى 204 من الهجرة النبوية. عندما جاء مصر وعلم بوجود السيدة نفيسة سعى إليها، وتوثقت علاقته بها لحسبها ونسبها النبوى الشريف، واعتاد أن يزورها وهو فى طريقه إلى حلقات درسه الفقهى فى مسجد الفسطاط عمروبن العاص حالياً . ومن الطرائف إنها تنبأت بوفاة الشافعى وأرسلت له ذلك ملغزاً، فقد كان من دأب الإمام إذا مرض أن يرسل إليها أحد أصحابه وتلاميذه أمثال الربيع المرادى والربيع الجيزى، يقول لها :إبن عمك الشافعى مريض ويسألك الدعاء له. فما يكاد يرجع للشافعى إلا وقد عافاه الله وشفاه، فلما مرض المرض الذى مات فيه، أرسل إليها كالعادة فجاء ردها يقول: “ متعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم”، عندها عرف الشافعى أنه ميت لامحالة، فأوصى أن تصلى عليه السيدة نفيسة، وبالفعل ذهبوا بجثمانه إلى دارها وصلى بها إماماً “الشيخ أبو يعقوب البوطى” أحد أصحاب الشافعى. وكعادة البسطاء يلجأون لأهل الحزم والتأثير والذين لا يخشون فى الله لومة لائم، يشكون همومهم ويعرضون عليهم حاجتهم، وحدث أن اشتكى الناس إليها ظلم وجور وعدم عدل الخليفة وقتذاك أحمد بن طولون، وكان موكبه يمر ببيتها، فكتبت رسالة هى قطعة من البلاغة والحزم والنصيحة والأمر بالإصلاح والتحذير من مغبة ظلم الناس، تصلح لأن يعلمها كل حاكم فاسد ليرتدع، ووقفت أمام بيتها عند مرور موكبه، فلما رآها نزل من على فرسه، وذهب إليها لينال بركة سليلة بيت النبوة ويسألها الدعاء، فأعطته الرسالة، تقول فيها: “ملكتم فأسرتم، وقدَرتم فقهرتم، وخُوّلتم ففسقتم، ورُدت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفَّاذة غير مخطئة، لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوّعتموها، وأجساد عّريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أىَّ منقلب ينقلبون”. فخشع ابن طولون وامتقع لونه عندما قرأها، وعدل من ساعتها عن ظلمه، وسعد الناس بصنيعها أيَّما سعادة أثلجت صدورهم وداوت جراح نفوسهم.