كاتب فلسطينى: سيدنا الخضر ومارجرجس هما الشخصية ذاتها ابن مدينة اللد الفلسطينية كعادة كل "الأبطال" فى التراث الإنساني، تبدأ القصة فى أصولها الأولى بشخصية استثنائية نسجت سيرة إنسانية متفردة، أو قدمت عطاء مشهودا، أو عهد عنها صلابة فائقة أو بطولة مميزة، إلى غير ذلك من الاستثناءات التى تضفى على سير أصحابها هالات وهيبة وربما قدسية من نوع ما، ويكاد يتفق فى ذلك "المتفردون" سواء فى الإرث الدينى أم السير الشعبية، أم التراث الإنسانى بشكل عام.. وسواء كان هذا "التفرد" محببا للنفس أم منفرا لها، ومن ثم تتواتر حكايات هؤلاء "الأبطال" ويتناقلها البشر، ويضفى عليها الرواة ألبسة تمزج بين الخيال والحقيقة، ومع مرور الأيام، يتعامل المحدثون مع هذا التراث باعتباره محصنا من المس، بل قد يلبسونه، وينسجون حوله المزيد من الأساطير، وفى حالات كثيرة تمتد سير هؤلاء "المتفردين" لتجاوز حدود المكان، والثقافة المكانية أو الإثنية، كما تخطت حدود الزمن، ويطلق عليها أسماء تعكس التداخل الثقافي، وقد يتعدى الأمر ذلك لتصبح هذه الشخصية أو تلك "أيقونة" متفردة فى ثقافات إنسانية عدة، والأمثلة على ذلك تكاد لا تحصى.. ولكن ذلك لا ينفى فى أحايين كثيرة قوة "القصة الأصلية" وتميز أو تفرد أصحابها.
ولا تشذ عن القاعدة فى رأيى سيرة "القديس جرجس" أو مار جرجس، الذى تسمى باسمه آلاف الكنائس على امتداد العالم، بتداخلات تأثير الثقافات واللغات التى اعتنق أصحابها السيرة المأثورة لشخصية "مار جرجس"، لتصبح القديس "جارجيوس" أو "جريس" أو "جرجة" أو "سان جورج"، وترى مصادر كنسية أن "مار جرجس" "قديس" بحسب معظم الكنائس شرقية كانت أو غربية، وهو أحد "المساعدين الأربعة عشر" فى التقاليد الكاثوليكية بحسب هذه المصادر، ويحتفى به يوم 23 إبريل سنويا، وهو التاريخ المرجح لاستشهاده، ويعنى اسمه المشتق من أصل يونانى بحسب مصادر تاريخية "الفلاح" أو "المزارع"، وفى مصر كما فى العديد من بلاد العالم التى يدين أهلها أو بعضهم بالمسيحية يحظى فيها "مار جرجس" بمكانة مقدسة، كانت السبب فى تسمية مئات الكنائس فيها باسمه، ومنها الكنيسة التى شهدت التفجير الإرهابى الأخير فى مدينة طنطا، يوم الأحد الماضى " الذى اصطلح على تسميته ب "أحد السعف الدامي".
من هو مار جرجس؟
بالرجوع للمصادر التاريخية، فإن معظمها يجمع على الأصل الفلسطينى لمار جرجس، وأنه ولد نحو سنة 280 ميلادية، فى مقاطعة "كبادوك" فى آسيا الصغرى لعائلة ثرية شريفة الأصل، إذ كان والده هو أناسطاسيوس، وكان واليًا على Melitene، بالمقاطعة، فيما كانت والدته ثاؤبستى أو ثاؤغنسطا من فلسطين ابنة والى اللدّ.
ويروى أن والده كان من خلصاء الملك، والمخلصين له، إلا أنه اعتنق المسيحية، التى كانت تنتشر بسرعة فى هذه الآونة، إلا أن الإمبراطورية الرومانية كانت لا تزال تدين بالوثنية، وحين اكتشف الملك اعتناق أناسطاسيوس للمسيحية أمر بقطع رأسه. فيما كان جرجس فى الرابعة عشر من عمره.
وعقب مصرع الأب أخذت الأم أولادها: جرجس وكاسية ومادرونة، ورحلت إلى مسقط رأسها فى ديوسبوليس فى فلسطين، حيث لقيت رعاية خاصة من "يسطس" الذى ولى مكان زوجها، إذ أحسن إلى عائلة سلفه أناسطاسيوس. وتولى تعليم الشاب جرجس الفروسية لينخرط فيما بعد فى سلك الجندية. حيث أظهر الشاب تفوّقا كبيرا على أقرانه، وشجاعة نادرة كفلت له أن يتولى قيادة فرقة من فرق الجيش. وأرسله الأمير "يسطس" إلى الملك ومعه رسالة توصية وطلب للملك بمنحه رتبة "أمير". وأحبه الملك ووافق على توصية "يسطس"، وصار اسم الشاب "جرجس الروماني"، وعيّنه أميرًا لفرقة قوامها خمسة آلاف جندي، ولما يجاوز العشرين من عمره.
مار جرجس والوحش
ترجع الصورة الشهيرة لمار جرجس وهو يصرع وحشا لأسطورة قديمة تروى أنه كان فى مدينة بيروت، وحش بنى عشه فى مدخل نبع للماء. وكان السكان المحليون يحاولون إخراجه من عشه ليتمكنوا من الحصول على الماء من النبع الذى كان المصدر الرئيسى للماء فى المدينة. وكانوا يقدمون له خروفا كغذاء يومي، لكى يخرج من مخبئه، فيتسنى لهم الوصول إلى النبع، وعندما نفذت الخراف كانوا يضحون بشخص مختار بالقرعة. وحدث أنه كانت الضحية أميرة محلية، وحينها صدف أن الأمير الشاب جرجس يمر بالمنطقة، فحارب الوحش وقتله محتميا بإيمانه المسيحي، ليحرر الأميرة. ويعتنق سكان المدينة المسيحية إثر ذلك، وأضحت هذه القصة ملازمة لسيرة الأمير الشاب، وترمز له فى لوحات أيقونية وتماثيل. وحتى اليوم، تعد أيقونة القديس والتنين رمزا وطنيا للعاصمة اللبنانية بيروت، ومدن ودول أخرى عديدة.
ولا يغيب عن الذهن أن هذه الرواية تتشابه بدرجة كبيرة مع الأسطورة اليونانية الشهيرة، للبطل الأسطورى بيرسيوس الذى قتل وحش البحر الذى أراد التهام الأميرة أندروميدا.
الحرب على المسيحية وبالعودة للسيرة المأثورة فقد أحب الملك جرجس، وسعى لخطبته لابنته الوحيدة، وهو ما تم بالفعل، وتأخر إتمام مراسم الزواج لصغر سن الفتاة، ولم تلبث والدة "جرجس" أن توفيت ليحزن عليها حزنا كبيرا.
وبرغم اعتناق جرجس المسيحية كجميع أفراد عائلته، فإنه أبقى إيمانه سرا، تخوفا من مصير والده، وكانت الإمبراطورية الرومانية تشن آنذاك حربا شعواء ضد المسيحية ومعتنقيها، ونما إلى علم الأمير الشاب أن صهره الملك قد اجتمع بولاته، وأصدر أوامره بمحاربة المسيحية بلا هوادة، والتنكيل بالمسيحيين فى عموما مملكته، وهنا يبدو أن الأمير الشاب قد حسم أمره، وعرف أنه سيضطر عاجلا أو آجلا لإعلان إيمانه، وبأنه سيلاقى اضطهادا كبيرا فى سبيل ذلك، فباع جميع ممتلكاته ووزع أمواله على الفقراء، وتهيأ لملاقاة مصيره طبقا للمصادر الكنسية. وما أن صدر مرسوم الملك حتى أمسكه القائد الشاب ومزقه علانية وسط الجماهير.
لم يطل انتظار الأمير الشاب جرجس كثيرا إذ ألقى حرس الملك القبض عليه، وسرعان ما تم اقتياده للمثول أمام الملك وحاشيته. ووفق مصادر تاريخية وكنسية فقد لاقى جرجس صنوفا من العذاب على يد الملك ورجاله، ليثنيه عن إيمانه، ولم يفلح، حتى انتهى الأمر بقطع رأسه فى 23 إبريل من العام 303 على التقريب، وهو فى عامه الثالث والعشرين، ليغدو بعدها تمسكه بإيمانه رمزا للمسيحيين فى مختلف أنحاء العالم، وأيقونة للوقوف ضد الاضطهاد الدينى والطغيان السياسي. وتظل أيقونة مار جرجس رمزا مسيحيا خالدا.
الأسطورة
منذ ذلك اليوم غدا مار جرجس أسطورة، وجرى فى منطقتنا العربية ربط بينه وبين "سيدنا الخضر"، فيما جرى فى العالم الغربى اعتباره أيقونة للنصر العسكري، يقول الكاتب خالد الحروب فى مقال له نشرته صحيفة الحياة اللندنية منذ أعوام: "فى الحملات الصليبية بين القرنين الحادى عشر والثالث عشر تفاخر قادتها من غودفرى دى بوبون إلى ريتشارد قلب الأسد وغيرهم كثيرون بأن جيوشاً من فرسان بيض على أحصنة بيضاء كانت تحارب معهم ضد «الكفار» وكانت بقيادة القديس «مار جرجس».
صارت تلك الأسطورة جزءاً من تاريخ الحروب، وتوسعت وتضخمت ونسجت طقوساً وخرافات استمرت حتى يومنا هذا. إنها قصة فلسطينية وغربية فى آن معاً وذات مذاق خاص. إنها فى الواقع القصة المختلطة ل «سيدنا الخضر» و «مار جرجس» معاً، وهما الشخصية ذاتها، ابن مدينة اللد الفلسطينية والمنتشرة كنائسه فى قلب البلاد بدءاً من مسقط رأسه مروراً بقرية الطيبة قرب رام الله ثم وصولاً إلى قرية الخضر، سميته، غرب بيت لحم".
وخلال تلك الرحلة التاريخية والطويلة صار معروفاً باسمه الغربى «سان جورج»، وصار أيقونة منحوتة فى الوجدان الشعبى. ففى إنجلترا وحدها هناك ما يزيد على مائة بلدة وقرية اسمها «سان جورج»، والشيء ذاته فى أوروبا كلها.