حينما شرفت بالعمل رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام كان هناك من سألني عن السقف السياسي الذي يدور في إطاره العمل; وكانت إجابتي, ولا تزال في كل الأوقات, هي أن الالتزام بالمهنية. بل والحدود القصوي منها إذا كان لها حدود, هو ما ينبغي أن نتمسك به, ومن حق القارئ علينا أن نقدم له أقصي ما نستطيع من معلومات ومعرفة في صياغات محايدة وموضوعية كما تقول كتب الإعلام والصحافة. كنت أعلم بالطبع الصلة التاريخية الخاصة لعلاقة المؤسسة بالدولة المصرية, ولكن يقيني أن هذه الصلة وتاريخها تجعل من المهنية ضرورة للأهرام حتي تحافظ علي مكانتها في ساحة صحفية تنافسية; وضرورة للدولة التي تحتاج دوما لمن يعبر عنها تعبيرا صحيحا علي ضوء أن الدولة ليست هي الحكومة, فالدولة هي كل المصالح الوطنية, والحكومة هي المنظم لعملية إنجاز هذه المصالح, والأولي دائمة والثانية مؤقتة مهما طال زمن البقاء, والأولي هي قلب السياسةPolitics التي تتحرك فيها تيارات متنوعة, والثانية تعبير عن السياساتPolicies التي يجوز فيها الصواب والخطأ والمراجعة. وما بين هذه وتلك تقع الصحافة معبرا عن الجميع لصالح سلطة جمهور القراء الذين لهم وحدهم الولاء. كنت قادما من المدرسة الأكاديمية البحثية لمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية التي نقلت بعضا من تقاليد البحث العلمي الصارمة إلي ساحة الصحافة; ولكنها كانت مهددة دوما بأن تكون في مركز العاصفة التي تنتاب العلاقة بين الصحافة والسياسة والأكاديمية وتجعل كل ضلع في المثلث الذي يضمهما معوجا وغير مستقيم. ولا شك في أن التجربة العملية للعمل في الساحة الصحفية المطبوعة والمسموعة والمرئية علي مدي أكثر من ثلاثة عقود أوضحت حدود الفجوة ما بين الواقع والمثال; وهي فجوة أخذت في التصاعد بعد ظهور الصحافة الحزبية, ومن بعدها الصحافة الخاصة بأشكالها المختلفة القادمة من مؤسسات اقتصادية أكبر منها أو تلك التي جاءت خصيصا كمشروع تجاري. ولم يمض وقت طويل حتي جاءت الثورة في الفضائيات التليفزيونية, فوصل عدد القنوات الناطقة باللغة العربية إلي نحو700 قناة متنوعة, وواكبها, وربما تجاوزها, عالم صحفي جديد جاء من الفضاء الافتراضي وخلق مجلاته وصحفه الخاصة, ومعه المدونات التي أعطت لمن يريد صوتا, ومن بعدها وسائل متعددة للتفاعل المكتوب والمسموع والمرئي كما لم يحدث أبدا في التاريخ. وببساطة لم تعد الصحافة مجرد ورقة وقلم مثلما كان الوضع في فترات تاريخية سابقة. فقد شهدت الساحة الصحفية بل والإعلامية تحولا نوعيا سواء علي المستوي القطري أو الإقليمي أو الدولي, مولد إعلام الموجة الجديدة, بمؤشرات واضحة لعصر العولمة الذي يشير في أبسط معانيه إلي فضاء مفتوح يتضمن فيضا هائلا من الأخبار والبيانات والمعلومات التي تبث بشكل يكاد يكون لحظيا إلي كل بقعة في أرجاء العالم, دون إيلاء أهمية تذكر للحدود الوطنية والحواجز الجغرافية, في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. والشائع أن هناك وجهتي نظر بشأن علاقة الصحافة الوطنية( المحلية) بالمستجدات العالمية: الأولي, تشير إلي أن تأثير الحكومات علي توجيه القارئ أو المستمع أو المشاهد قل بدرجة ملحوظة في ظل الثورة الحالية في عالم الصحافة, نتيجة التعدد في المنابر الإعلامية وتوسيع دائرة البدائل أو ما يتم التعبير عنه بالحق في الاختيار, وحدوث تغير نسبي في تقاليد التلقي. وأنه لم تعد هناك' تابوهات' أو محرمات لا يمكن الاقتراب من مناقشتها, ولم يعد من الممكن إخفاء الحدث أو حتي تقديم نصف الحقائق, فضلا عن كثافة استخدام الصوت والصورة بجانب تأثير الكلمة المكتوبة. أما الثانية فتري أنه لا يمكن تكريس حرية الصحافة مع تعدد الوسائل الإعلامية في مجتمعات تفتقر إلي ثقافات مفتوحة ولديها القدرة علي تقبل الآخر والانفتاح علي أفكاره والتفاعل معها بطرق محايدة وموضوعية. وباختصار مهنية من أولها إلي آخرها; فالصحافة لا تؤتي تأثيرها إلا في ظل مناخ عام يشجع علي حدوث هذا التطور أو ذاك. وأخيرا طالعت ما نشر من تقارير صحفية عن المؤتمر الدولي الأول الذي عقد في مدينة براغ في أكتوبر الماضي عن مستقبل الصحافة المطبوعة وصالة تحرير عام2015 والثورة الجديدة في الإعلام الرقمي, وكانت خلاصة ما قرأت أن ملامح صالات التحرير داخل الصحف قد تغيرت من شكلها التقليدي, الذي يغلب عليه الأقلام وورق الدشت, إلي شكلها العصري القائم علي هيكل الكتروني متكامل, يمثل عصبه الحساس ما يطلق عليه نظم معلومات إدارة التحرير, والذي يمكن من خلاله إدارة مختلف جوانب العمل داخل المؤسسة الصحفية. ووفقا لهذا النظام فإن ثمة مدخلات يتلقاها نظام المعلومات, تتسم بالتنوع ما بين معلومات نصية ومواد سمعية وأخري مرئية ينتجها المحررون بأنفسهم أو تحصل عليها الصحيفة من أحدي وكالات الأنباء, أو تطور وتحدث بعض البيانات الخاصة بموضوع ما من أرشيفها السابق وهكذا, ثم تخضع لنوع من المعالجة التحريرية لفريق الديسك المركزي, بما يجعلها قابلة للنسخ علي الورق أو النشر علي الإنترنت أو البث علي المحمول أو القناة الفضائية. هذه الخبرات كلها بطريقها إلي مصر من خلال برنامج هيئة المعونة الأمريكية للتنمية الإعلامية والذي بدأ منذ عام2006, ومن خلال لجنة مشتركة بين الهيئة ووزارة التعاون الدولي وممثلين لهيئات إعلامية رئيسية حيث جرت عملية تدريب لقرابة4000 صحفي وإعلامي علي تلك الأساليب الحديثة في مؤسسات خاصة وعامة في القاهرة والإسكندرية وأسوان والمنيا. ومنذ فترة قصيرة جري افتتاح مركز متقدم للتدريب الصحفي بالمجلس الأعلي للصحافة, وقبلها جري إمداد نقابة الصحفيين في القاهرة والإسكندرية بمعامل فنية, كما دخلت مؤسسات الأهرام والأخبار وجامعة القاهرة واتحاد الإذاعة والتلفزيون ووكالة أنباء الشرق الأوسط في برامج متنوعة للتطوير والتحديث الذي يعتمد علي أساليب متقدمة لاستخدام الوسائط الإعلامية المتعددة. كل ذلك يضع الصحافة والإعلام المصري أمام ثورة كبيرة في القدرات والطاقات القادرة علي التأثير والتغيير, وكما هو الحال في كل طاقة من أول النار حتي الطاقة الذرية, فإن الخير والشر يصبحان وجهين لعملة واحدة, ولا يحكمها كما هو الحال أيضا في كل الطاقات إلا أمران: الوظيفة والمهنية. وإذا كانت وظيفة الصحافة هي الإعلام والإخبار وتوصيل الرسالة ومكوناتها وأصولها وفصولها, فإن المهنية هي الوسيلة واللغة التي يصل بها كل ذلك إلي القارئ والمستمع والمشاهد. وكل ذلك تتصاعد أهميته بالنسبة لمصر خلال المرحلة المقبلة حيث يطرح علي البلاد خيارات صعبة علي الصحافة أن تطرحها ولكنها لا تحددها, تفسرها ولا تجنح بها, تعود بها إلي أصولها ولا تشطح بها في عالم من اللغويات الصوتية, وفي كل الأحوال فإن عليها أن تبقي بوصلة المهنة قائمة وحازمة. وربما يمكن بسهولة شديدة إطلاق أسبوع البرادعي علي التناول الصحفي خلال الأسبوع الماضي علي كافة الجبهات الصحفية, ورغم ذلك فقد غابت' المهنة' من الصورة. فقد كان لدينا حائز علي جائزة نوبل وقلادة النيل, ويطرح نفسه مرشحا لرئاسة الجمهورية إذا طلب الشعب ذلك وإذا ما استجابت الحكومة إلي تغيير أو تعديل الدستور أي تبديل الأساس الذي تقوم عليه الدولة. وفي مثل هذه الحالات, ومن الناحية المهنية البحتة, فإن الموضوع يكون هو الدكتور محمد البرادعي, ولكن ما حدث فعلا هو أن الشخصية سقطت تماما من الصورة, ولم يبق إلا نفسها الموضوعات التي كنا نناقشها منذ وقت طويل, والشخصيات والتنظيمات التي كنا نتحدث عنها منذ زمن بعيد. وكم كان مدهشا أن تطير أرقام كثيرة حول مصر وأحوالها دون أن تجري عليها مراجعة من أي نوع; وكم كان مدهشا أكثر أن تساؤلات جوهرية جري تجنبها وسط زحام كبير لجماعات سياسية شدت رحالها من وسط المدينة لكي تقف علي هوامشها. ولم يكن مفهوما كيف يمكن إقامة حوار حول التغيير بينما الحديث كله يجري حول الحشد والتعبئة; ولا كيف يمكن تغيير الدستور والقانون دون اعتماد علي آليات موجودة بالفعل في الدستور والقانون الحالي. ولكن الدهشة تحولت إلي صدمة كاملة عندما لم تكتف قنوات تليفزيونية وصحف مستقلة بما حصلت عليه من ساعات للتسجيل والإذاعة, وصفحات للنشر والترويج, وإنما وجدت أن الفرحة لا تكتمل دون تعريض بالصحافة القومية والإعلام الوطني لأنه لم يشارك في السباق بالحماس اللازم أو الفرحة الواجبة. وبالتأكيد فإن الموضوع هنا ليس قصة الدكتور محمد البرادعي فهذه علي الأرجح سوف تنتظر حتي عودته من الخارج بعد شهر من الآن ويستأنف حركته السياسية; ولكن القضية الأساسية هي إلي أي حد كان ممكنا للمهنية أن تنقل قصة بأكملها من قلب الإثارة التي تعودنا عليها طوال السنوات الماضية إلي حالة سياسية ناضجة; وأن تأخذ حالة من السباق الصحفي إلي واقع العمل السياسي فتعطيه فرصا أكبر للتطور والتقدم. والمثال هنا يطرح بوضوح ما نحن مقبلون عليه خلال الشهور المقبلة حيث تصل الآلة الإعلامية المصرية إلي أقصي حالات قوتها في وقت انتخابات مجلسي الشعب والشوري ومن بعدهما الانتخابات الرئاسية. وهي لحظات لن يختلف أحد علي أهميتها, ولن نبالغ إذا قلنا علي تاريخيتها, وما لم تكن هذه القدرات والطاقات مستخدمة بمهنية عالية تؤهلها لها وسائل حديثة ومتنوعة, فإن ما سوف نحصل عليه لن يزيد كثيرا علي حالة من الضوضاء الصارخة التي تخلط الأمور ولا تنقيها, وتلعب بالعقول ولا تدفعها إلي التفكير. المهنية من قبل ومن بعد هي المفتاح, أما الأدوات والوسائل فكلها في النهاية تتيح للإنسان أن يصل إلي آفاق ما كان له أن يصل إليها من قبل, أما تحديد هذه الآفاق فهذه مهمة الإنسان في الأول والآخر. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد