يحكي أن.. في يوم من الأيام.. حدث ذات مرة.. كان يا مكان.. تنويعات ارتبطت في أذهان كل البشر بالحكي للصغار وإن كان معظمنا يدرك, وإن لم يعترف, أنه من الصعوبة بمكان أن نفلت من سحرها الآسر حتي في الكهولة. فكل واحدة من هذه العبارات البسيطة التلغرافية كفيلة بأن توقظ في النفس أحاسيس الدفء والطمأنينة وتستعيد من زاوية منسية في أعماق الذاكرة تلك الحميمية التي كانت تلف أي مكان تتردد في فضائه حكايات الأجداد والأمهات.. يوم كانت نبرات أصواتهم تحملنا لنعبر البحور ونقطع الوديان في عوالم خيالية لا يستمر فيها الألم أو الصراع بين الخير والشر لأكثر من لحظة, بعدها لابد وأن يندحر الشر ويعيش الأخيار في تبات ونبات, دونما حتي ذكر لمجئ مفرق الجماعات. هكذا كانت ولا تزال حكايات الصغار, لكننا اليوم بصدد أكثر من حكاية, برغم أنها جميعا تستعين بالكلاشية المعروف في حكايات الأطفال, إلا أنني أزعم أن أيا منا لايستطيع أن يجزم أنها ستنتهي بنهاية سعيدة مثل كل حكايات الجدات لأنها ببساطة ابنة الواقع لا عوالم الخيال. ففي رواياتها التي اختارت أن تكتبها بالانجليزية تحت عنوان مستوحي من شكل الحكي للصغار هو في يوم من الأيام في القدس نسجت د. سحر حمودة حدوتها الواقعية التي تجمعت خيوطها عبر حكايات الجد والأم وتحددت تفاصيلها من روايات الأخوال والأعمام وأبنائهم.. لم تهدهد الجدة ابنتها بأغنيات المهد أو تحكي الأم لطفلتها قصة الشاطر حسن ولا عروسة السبع بحور.. لم تستطع أي منهما أن تداعب خيال وليدتها إلا بحكايات عن مدينة كانت وبيت عتيق كان جزءا من أسوار القدس.. زهرة المدائن.. وهكذا كانت حكايات الأم عن القدس ودار الفتياني العتيق أول ماداعب خيال سحر حمودة في طفولتها وظل يرافقها في رحلة شبابها ليمثل جزءا أساسيا من كيانها وكينونتها, فكانت الرواية وكانت سحر حمودة. وبرغم أن الرواية يمكن أن تندرج تحت مسمي رواية الأجيال, اذ تعرض لحياة أسرة فسطينية تعيش في القدس إبان الحكم البريطاني ومصيرها في الشتات بعد نكبة1948 وبرغم أن الأحداث تجري علي لسان شخصية الأم التي كانت طفلة في ثلاثينيات القرن الماضي وابنتها التي تعلق علي ما روته الأم, وأن أحداث الرواية تسلط الضوء علي التاريخ الاجتماعي الفلسطيني الذي أغفلة المؤرخون تحت وطأة الأحداث الدامية المتسارعة, إلا أنني أزعم أن سطوة منزل الفتياني الذي مثل أحد تخوم أسوار القدس منذ القرن الخامس عشر وأحيائها القديمة, ألقت ظلالهما علي العمل ليصبح المكان هو البطل الحقيقي للرواية وليطبع منزل الفتياني حياة سكانه بالروح المسكونة في حجارته وأبوابه.. ففي رواية في يوم من الأيام في القدس نكتشف أن حديث الأحجار هو الصوت السردي الحقيقي في العمل, حيث ينقلنا لعالم واقعي عاشته مدينة القدس في حقبة ثلاثينيات القرن العشرين وما قبلها.. عالم يناقض كل واقعنا الفعلي ويبدو أشبه بالحلم.. تحدثنا الأحجار عن مدينة مقدسة كوزموبوليتانية تحتضن كل الناس وكل المعتقدات.. تهمس الأحجار بالبدايات وترصد إرهاصات النهاية وتتنبأ باللحظة الآنية التي يتم فيها طمس تاريخ المدينة ومحاولة استلاب ذاكرتها. عند هذا الحد توقف القلم وتناثرت الأوراق وتبعثرت كلماتي لتظل قرءاتي لمابين سطور رواية سحر حمودة ولما رصدته كلماتها من شكل للعلاقات الأسرية قبل النكبة والذي يكمل الصورة التي نقلتها لي الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة علي خلفية لقائي معها عقب فوزها بجائزة نجيب محفوظ قبل عدة أعوام, وتوازي الاحساس بروح المكان وتوظيفه في رصد التاريخ الاجتماعي للوطن في عمل سحر حمودة وفي رواية وفية خيري مدينة الحدائق وحكاية آل الدفراوي التي رصدت فيها هي الأخري ملامح حي جاردن سيتي وتطور الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر منذ اربعينيات القرن الماضي في شكل روائي دمجت فيه السيرة الذاتية وفكرة الحصار المعنوي والمادي علي مستوي الفرد والمكان, حيث تبدأ فصول الرواية لحظة اضطرار الأسر المصرية لهجر مساكنهم في حي جاردن سيتي واخلائها لقوات الاحتلال البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية, وتنتهي يوم تحولت مدينة الحدائق مرة أخري لشبه معتقل بعد أن حاصرتها المتاريس في بداية الألفية الثالثة لتأمين السفارات, ليظل كل هذا مجرد أفكار متناثرة معلقة في الهواء لايستطيع عقلي المشتت أن يلتقطها ويصوغها في شكل أوضح وأكثر تفصيلا.. لعميد المسرح العربي يوسف وهبي كلمة مأثورة لطالما سخرنا منها ومن اسلوبه في إلقائها أيام النزق, إذ كان يقول وما الدنيا إلا مرسح كبير,( هكذا كان ينطقها بدلا من مسرح).. تردد صدي صوته في مسمعي بينما كنت أرقب علي أرض الواقع ما عايشته لأكثر من مرة في عالم الخيال الروائي كان آخره ما سطرته سحر حمودة ووفية خيري في عملهما اللذين أشرت لهما في السطور السابقة.. تري هل هي المصادفة أم أنني عندما أمضيت الأسبوعين الأخيرين تحديدا في قراءة سطور محورها أماكن تحت الحصار, أكنت أتنبأ بما سيحدث(!!) فما بين زهرة مدائن سحر حمودة ومدينة حدائق وفيه خيري وحكاية50 مليون عام من عمر الزمن يرويها وادي دجلة,, وحكاية المعادي, تلك القرية الصغيرة الواقعة علي شط النيل التي يرجع تاريخها للقرن الرابع قبل الميلاد والتي لايزال اسمها يعبر عن نشاط أهلها آنذاك, حيث كانت نقطة عبور لطرق القوافل وللنقل بالزوارق التي كشفت الحفائر الأثرية التي قام بها محمد عامر وزرقانه في وادي دجلة في ثلاثينيات القرن الماضي وبعثات معهد الاثار الألماني وجامعة روما فيما بعد عن وجود أوان فخارية وأدوات بناء نحاسية وهياكل عظمية لاترسم فقط صورة للحياة الطبيعية في مصر في تلك الحقبة الزمنية البعيدة, بل تكشف أيضا عن شكل الحياة الاجتماعية آنذاك واتصال سكان المنطقة بالثقافة السيريانية في سوريا وفلسطين, وحكاية معادي القرن العشرين التي رسمتها سطور وكلمات سمير رأفت في كتابه الذي يحمل نفس العنوان منذ نشأتها في عام1905, فكانت الضاحية شاهدا علي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, بل والحربية في مصر علي مدي قرن كامل, هل بعد كل تلك السطور تلبستني روح الأماكن؟! تري أكان حدسا أم نبوءة أم مصادفة أم مجرد تنويعة أخري علي حكايات الواقع البعيدة كل البعد عن كل الحكايات التي نرويها للصغار؟! علي أوراقهما, استدعت وفية خيري وسحر حمودة أحاديث الحجارة والاشجار وعبق الزمان.. وعلي أرض الواقع وبين أطلال حديقة صغيرة غيبت الرمال وأكوام الردش زهورها وأشجارها, وقفت مع جيراني ممن انفقوا تحويشة العمرلتأمين مسكن صغير, ننعي ورودا وأشجارا زرعناها في أرضنا وبأموالنا القليلة علي مدي سنوات طوال ولكنها في لحظة بادت تحت وطأة التعدي غير المشروع والاستهانة بالقانون وغياب ثقافة حق الآخر والمنفعة العامة وحماية البيئة والحفاظ علي طابع الأماكن والتاريخ. تراكمت الرمال لتدفن تحتها اللون الأخضر وجهد السنين والكثير الكثير من القيم التي أكاد أجزم بأنها تحولت في لحظة في عيون أبنائنا وشباب الحي الذين وقفوا مذهولين وعاجزين أمام ما يحدث, لمجرد شعارات جوفاء بلا معني. تري أهي مصادفة أخري أن يكون هرم الرمال والردش المتعدي مواجها تماما لمزرعة الزيتون التي بادت من قبل منذ أكثر من عشرين عاما بعد استمرار تعطيشها تمهيدا لاقتلاع اشجارها, رغم تصدي كل من استاذينا العظيمين أحمد بهاء الدين ويوسف أدريس وكتاباتهما المتعددة المحذرة من التعدي علي المنطقة التي تعد محمية طبيعية واهدار العائد الاقتصادي لغابة الزيتون؟! مصادفة كانت أم نبوءة أم إقرارا لما آل إليه حالنا أم مرثية لزمان ومكان, ربما يكون هذا شأني الخاص وهمي في الأيام المقبلة ولكني لن أستطيع أن أختتم سطوري دون أن أسجل اعتذارا.. قارئنا العزيز.. الأستاذة وفيه خيري.. د. سحر حمودة.. عفوا لتقديمي قراءة مبتسرة لعملين استحقا التوقف أمامهما وتأمل تفاصيلهما الدقيقة, وربما يكون عذري أن حكاية آل الدفراوي في مدينة الحدائق ودار الفتياني في زهرة مدائن سحر حمودة لا تختلف كثيرا عما رأيته علي أرض الواقع في زهرة الصحاري من تعدي وتحدي لقرارات الحي وقرار سيادة المحافظ قدري ابو حسين بتحويل المعادي لمحمية طبيعية قبل ايام قليلة ولا لقرار اسرائيل بادراج الحرم الابراهيمي ومسجد بلال بن رباح علي قائمة مواقعها الاثرية في مسلسل مخطط طمس ذاكرة مدينة وتهويد القدس... فكلها انتهاكات غير مشروعة للمكان وللتاريخ. استاذنا أحمد بهاء الدين.. المبدع الغائب عن عالمنا الحاضر دائما في وجداننا د.يوسف أدريس.. عفوا فبعد أكثر من عشرين عاما لانزال ندور في دوائر مغلقة.. لانزال نتكلم ونصدر قرارات لا نستطيع تفعيلها..ولاتزال الأحجار تصرخ والأشجار تئن ومازالت حكاياتنا مجرد مرثيات حزينة.