في مارس المقبل يتسلم العقيد معمر القذافي قائد الثورة الليبية من الرئيس السوري بشار الأسد رئاسة القمة العربية لعام كامل حسب قرار القمة الأخيرة التي عقدت في دمشق. وإذا كان العام المنصرم. قد شهد بعض الخطوات الايجابية في الشأن اللبناني, وفي تخفيف الاحتقان بين بعض الأطراف العربية, وفي التمهيد للخطوة الثالثة من خطوات التكامل الاقتصادي وهي إنشاء الاتحاد الجمركي العربي إلا أن هناك أمورا أخري كثيرة ظلت عالقة لم تراوح مكانها, بل واستجد عليها تحديات جديدة بعضها من صنع أطراف عربية وأخري من تأثير البيئات والأطراف الخارجية. فماذا يمكن للقمة العربية المقبلة أن تفعل حيال تلك الاستحقاقات المتراكمة والجديدة, وكيف يمكن للرئاسة الليبية أن تكون فاعلة ومؤثرة في الاطار العربي وهي التي عرفت خلال العقد الأخير بمواقفها المتحفظة ونظرتها التشاؤمية وسلوكها الانسحابي إزاء العمل العربي المشترك وقضاياه الحيوية؟ صحيح أن ليبيا لها رؤيتها الخاصة حول فلسفة العمل العربي المشترك وضرورة تضمينه أبعادا جماهيرية وشعبية بحيث لا يكون حكرا علي الحكومات, وصحيح أيضا أن لها طروحاتها الخاصة حول كيفية تطوير النظام الاقليمي العربي هيكليا ووظيفيا ليشبع في النهاية أحلام الشعوب العربية في الوحدة والقوة والهيبة, وصحيح كذلك أن للقيادة الليبية رؤية خاصة لكيفية تسوية الصراع العربي الاسرائيلي من خلال دولة واحدة تقوم علي أرض فلسطين التاريخية وتضم تحت لوائها الشعبين الاسرائيلي والفلسطيني. إلا أن ذلك كله لم يمنع ليبيا من أن تكون طرفا مشاركا في كل قرارات الشرعية العربية التي صدرت في مختلف القمم العربية السابقة بشأن الاصلاحات التدريجية للنظام العربي وبشأن قضية العرب المركزية وهي القضية الفلسطينية, بما في ذلك مبادرة السلام العربية. ومعني ذلك أن ليبيا الثورة أو الأفكار الثورية الخاصة للقيادة الليبية لم تحل دون التزام ليبيا الدولة بما استقر عليه العمل العربي المشترك من مفاهيم ومباديء وقواعد للتسويات السياسية وللعلاقة مع الأطراف الأخري. وهو موقف ليبي جدير بالتحية والتقدير نظرا لما يحمله من سلوك ديمقراطي في إطار العمل العربي المشترك. هذا إلي جانب أن ليبيا الدولة نجحت أيضا خلال الأعوام القليلة الماضية في كسر جليد العلاقات بينها وعدد من الأطراف الدولية الكبري, وتمكنت من فتح أبواب جديدة لهذه العلاقات علي أسس الاحترام المتبادل وتكافؤ المصالح وصارت بذلك طرفا دوليا ومتوسطيا يعمل له حساب, ويجري تشجيعه والمشاركة معه في مشروعات محلية وإقليمية ودولية. واعتقادي أن الرئاسة الليبية للقمة العربية المقبلة يمكنها لو أرادت أن تحدث اخترقات هامة في أكثر من مجال وأكثر من اتجاه وذلك استنادا إلي بعض المزايا النسبية والمؤهلات التي تتوافر لليبيا جغرافيا وسياسيا واقتصاديا. وأول هذه المجالات المرشحة هو تطوير العمق الاستراتيجي العربي في إفريقيا وتخليق مصالح وآليات جديدة وفاعلة بين الفضاءين العربي والإفريقي, وربما يكون انعقاد أول قمة عربية إفريقية في طرابلس تدشينا لهذا التفاعل الجديد وتتويجا في نفس الوقت لجهود ليبية ضخمة بذلتها وما تزال تبذلها في هذا الاتجاه. أما المجال الثاني فهو استكمال جهود المصالحة العربية التي بدأت بين السعودية وسوريا, وبين سوريا ولبنان لتشمل بعد ذلك مصر وكلا من سوريا وقطر. وربما تمتد هذه المساعي لتشمل أيضا الموقف في جنوب الجزيرة العربية وكيفية التعامل مع التحدي الحوثي الجديد. ورغم أن طبيعة ومستوي الحرارة في العلاقات الليبية اليمنية القوية قد يمكنها المساهمة في التوصل إلي ديناميات سياسية جديدة في علاقة الحكومة اليمنية بجماعات الحوثيين المتمردة, وهو ما قد يخفف بالتبعية من أسباب المواجهة والتوتر بين السعودية وتلك الجماعات. علي الجانب الآخر هناك معضلتان كبيرتان ستكونان أمام الرئاسة الليبية للقمة العربية المقبلة. وأولاهما تتعلق بكيفية دفع عمليات المصالحة الفلسطينية واستثمار ما قد يتحقق في هذا المجال قبل القمة أو بعدها ليكون نواة لتحريك عملية السلام العربي الاسرائيلي برمتها في الاتجاه الصحيح وصولا إلي إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة علي النحو الموصوف في قرارات الشرعية الدولية وقرارات القمم العربية السابقة. وأما المعضلة الثانية فتتعلق بتطورات الأوضاع العراقية, وكيفية تفعيل الوجود العربي هناك ليكون سندا داعما لاستكمال العملية السياسية الداخلية والمصالحة الوطنية المطلوبة بين كل الفئات والأطياف العراقية بالتوازي مع دعم الاستقرار الأمني والتحضير لانسحاب القوات الأمريكية نهائيا في عام2011. ويرجع وصف هاتين المسألتين بالمعضلة إلي طبيعة المواقف الليبية المسبقة وصعوبة التوقع لكيفية التعامل الليبي مع كل منهما من موقع رئاسة القمة. ورغم أن ليبيا الدولة ملتزمة بما صدر عن القمم العربية السابقة في شأن قضيتي الصراع العربي الاسرائيلي, والعراق إلا أن الرئاسة الليبية للقمة قد تحتاج في بعض المراحل المقبلة إلي تفويض الأمين العام للجامعة العربية وتصديره لبعض الأعمال والخطوات المطلوبة عربيا في هذين المجالين, ولحين حدوث تطورات نوعية في المواقف الليبية ذاتها. مهما تكن التحديات أمام القمة العربية المقبلة ومهما تكن المفارقة بين مواقف ليبيا الثورة وليبيا الدولة فإن المأمول لدينا أن تكون رئاسة ليبيا للقمة تدشينا لمرحلة جديدة في العلاقات الليبية العربية, وقد تقدم القيادة الليبية فيها من هذا الموقع مفاجآت سارة ومبادرات طيبة في مجالات تشجيع العلم والعلماء العرب, وقضايا الهجرة والسكان ومشكلات البطالة في العالم العربي. وقد تقدم الخبرة الليبية في مجال التعويض عن الفترات الاستعمارية السابقة إلهاما لبعض الأطراف العربية يمكن الإفادة به في مساع مماثلة.