سواء نجحت الطرق الصوفية في تنظيم مليونية الجمعة اليوم أو تراجعت عنها أو لم تنجح في تنظيمها, فإن أصداء الرسالة التي تركتها دعوة عدد من الطرق الصوفية لعقد مليونية في ميدان التحرير تحت شعار في حب مصر المدنيةس() سوف تتفاعل في الواقع السياسي المصري لفترة ليست بقصيرة, لما نبهت إليه إمكانية عقد هذه المليونية من أهمية هذا الجسد الصوفي المترهل الزاهد في الحياة فيما لو قرر دخول معترك العمل السياسي, وذلك يدق أجراس إنذار علي أبواب مختلف القوي السياسية في مصر, ويمثل اختبارا للجميع بشأن مدي القبول بقواعد الديمقراطية. فهل يمكن للطرق الصوفية أن تمثل فعلا فرس رهان في السياسة المصرية في ظل ثورة25 يناير, في تناقض تام مع ماضي الصوفية المعتكف الزاهد الهائم في العشق الإلهي, أم أن الحديث عن تعاظم الدور السياسي للطرق الصوفية هو أمر مبالغ فيه, ولا يمكن تحققه بالنظر إلي خصوصية المعتقدات الصوفية التي تهدد السياسة بإخراجها إلي الحياة وهجرانها عالم المناجاة الغيبية والروحية؟ وهل من الأفضل مشاركة الطرق الصوفية في السياسة؟, وكيف يمكن أن تشارك وأن تؤثر إيجابيا؟, وكيف سيكون شكل السياسة في مصر في ظل مشاركة الطرق الصوفية؟. لقد فتحت أصداء دعوة المليونية الصوفية آفاقا جديدة للتفكير والخيال بشأن مستقبل علاقة: الديني بالديني, والديني بالسياسي, والسياسي بالسياسي في مصر, وأكدت ملابسات الدعوة ومساجلاتها بين الطرق الصوفية ومشايخها أن الأوضاع بعد25 يناير تتجه لإفراز معادلات ضبط جديدة بين القوي السياسية والمدنية, هي في أساسها إيجابية تماما, حيث تضبط القوي والمصالح المختلفة ذاتها بذاتها علي نحو تلقائي, دون دور سلطوي من الدولة; فعندما تختل كفة الميزان بين القوي المتنافسة علي نحو يضر بالحياة السياسية, يفرز المجتمع تلقائيا من القوي من يتصدي للتيارات الجامحة التي تغتر بالقوة, أو تسعي لاختطاف الدولة بمعزل عن باقي الشركاء في الجماعة الوطنية. ويبدو أن هذه الحالة لإفرازات القوي الجديدة سوف تستمر حتي تنضبط التوازنات المدنية والسياسية وتستقر, وحتي تتوصل القوي المدنية إلي قناعات راسخة بأنه في مصر الجديدة لا مجال إلا للقبول بالآخر والتعايش معه, مهما كانت درجة الاختلاف, هكذا كان البعث السياسي الراهن للصوفية رد فعل تلقائيا تاما علي غزوة السلفية علي الواقع المصري وعلي ميدان التحرير, وإسنادا للقوي والتيارات الليبرالية والقبطية, وذلك أمر لم يكن متخيلا في مجمله قبل سنوات. فخلال العقود الستة الماضية ظلت جماعات الإسلام السياسي في صدارة التعبير عن التمثيل الديني والهوية الدينية لمصر, دخلت لأجله في صراع ممتد مع النظام, وذلك حصر علاقة الإسلاميين بالسياسة في أركان وزوايا خاصة انعكست بالسلب علي الدولة المدنية. بينما نبه مجرد تلويح الطرق الصوفية بالدعوة للمليونية إلي حقائق جديدة ظلت غائبة طيلة عقود. فالطرق الصوفية التي تبلغ77 طريقة وبحجم أعضاء يتجاوز10 ملايين طبقا للمصادر الصوفية , تشير إلي كتلة بشرية وسياسية مهولة, لا تزال مجهولة من ناحية: الفكر السياسي, وأنماط السلوك المحتمل, وأدوات التفاعل البيني, ومن شأنها نظريا إن قررت دخول عالم السياسة بعد الثورة أن تقلب معادلات القوي المستقرة وغير المستقرة في مصر. لقد بقيت الطرق الصوفية مستكينة راضية بما سمح لها به النظام السابق من حرية ممارسة الطقوس الخاصة, ومستغنية عن السياسة والاهتمام بها والتثقيف فيها, وعلي مدي السنين جسدت الموالد الشعبية للطرق الصوفية والارتماء في أحضان أضرحة الأولياء والأوراد الليلية الجماعية, بدائل روحية لها عن الانغماس في السياسة والحياة, وفجرت ينابيع للصفاء الروحي في الذاكرة الجمعية لأتباعها في القري والريف وفي الدلتا والصعيد. من هنا يعد تفكير بعض الطرق الصوفية في عقد مليونية بالتحرير خروجا علي الإرث الصوفي في التعامل مع الدنيا, وهو أمر يرسي لقاعدة جديدة في الحياة السياسية, وهي أنه من الآن فصاعدا قد تتجه الطرق الصوفية إلي دخول معترك السياسة أو علي أقل تقدير تقف قريبة منه ترقب الأوضاع وتؤثر في معادلات السياسة وموازين القوي; إنها من الآن لن تكتفي بالاعتماد علي ما بينها وبين الدولة من عقد ضمني يضمن لها حرية معتقداتها وممارسة طقوسها ويصون المقامات الرفيعة لمشايخها, وإنما ستتجه في هذا الشأن إلي تأمين حريتها من خلال التحالف مع القوي المدنية والسياسية. وفي ظل ما بدا من خطر كامن علي العقائد والممارسات الصوفية من جانب السلفية, يبدو أن هذه الطرق والجماعات تقترب من الإبحار في محيط السياسة الآسن. ولكن يعترض الصوفية في عالم السياسة الكثير من العراقيل, التي تبعدها عن أن يصبح لها وزن سياسي حركي فاعل; فالطرق الصوفية مختلفة, وتصل الاختلافات بينها أحيانا حد التشهير المتبادل, واتهام بعضها بعضا بالتشيع وتلقي الدعم من إيران, وهناك دلائل علي تزعزع الثقة بثنائية الشيخ المريد من جانب الأجيال الأصغر عمرا في بعض الطرق الصوفية. وفيما عدا البيعة وعلاقة التابع والمريد بالشيخ لا تعرف الطرق الصوفية التنظيم والانضباط الحزبي, ولا تعرف نظاما لانسياب الأوامر والتوجيهات وتسلسلا هيراركيا في القيادة علي غرار جماعة الإخوان المسلمين مثلا. ويلعب عامل الثقافة السياسية دورا مهما; فالكثرة من أتباع الطرق الصوفية هم أقل تعليما وثقافة, يلجأون للصوفية طلبا للسعادة الروحية, وينتظمون في مجموعات وحلقات متعددة المستوي التعليمي والفكري والثقافي, وهم في الأغلب من كل شرائح المجتمع, عمال وفلاحين وموظفين وعلي المعاش. ووارد جدا مع الاختلافات البينية للطرق الصوفية ونقص الثقافة السياسية أن تتوزع أصوات أتباعها ومريديها علي كل أطياف القوي السياسية في مصر, ووارد أيضا أن تقابل دعوات المشايخ للمشاركة في الحياة السياسية بانقسامات داخل هذه الطرق وممانعة من جانب الأتباع. والأهم أن الصوفية أبعد ما تكون عن تقديم رؤية ونموذج في السياسة والحكم والتنمية, وهي أمور لا تراث فيها للصوفية, وهو أمر يخالف رؤاهم الروحية والدينية, وتهدد المشاركة السياسية للطرق الصوفية بالإخلال التام بمنظومة القيم والفكر الصوفي, ومن ثم ففي أفضل الأحوال سيظل توظيفهم واستغلالهم من القوي الأخري أمرا قائما في الحياة السياسية المصرية, وقد يقتصر هدفهم علي حماية مصالحهم وضمان حرية ممارستهم لطقوسهم دون هدف وطني أكبر, هكذا فإن إضافتهم في الإطار المدني والسياسي بعد الثورة هو أمر محل جدل. هذا لا يعني أنه لا مجال للعمل المدني والأهلي للصوفية في رؤي وفكر التنمية; فهم يمكن أن يكونوا بمثابة قوي ناعمةس والانحراف بالدولة المدنية عن أهدافها, وتقف حجر عثرة أمام هيمنة رؤية أيديولوجية شمولية علي السياسة والحكم, في الوقت الذي تحجم أيضا من جنوح الليبرالية في مجتمع يمثل الدين له أولوية, وفي هذه النقطة يمكن للصوفية أن تقدم الكثير إلي ميراث الاعتدال في الدين والدولة في مصر, إن التفكير بمستقبل الدور التنموي والسياسي للطرق الصوفية هو أمر ينبغي أن يشغل جانبا من اهتمام الدولة والقوي السياسية في الفترة المقبلة, فلا يجب ترك الجماعات الصوفية محايدة ومستكينة فقط إلي البحث عن ترفيه وإسعاد الروح بالذوبان في محبة الأولياء والعارفين والأضرحة, وإنما من المهم السعي نحو توجيه هذه الطاقة الروحية الجبارة نحو هدف الارتقاء بالحياة, والانخراط في فكر تنموي ومشروع للنهضة, من خلال توثيق صلاتها بعشرات الآلاف من جمعيات المجتمع المدني, والارتقاء بالفكر الصوفي نحو الاستنارة ليخرج نموذجا للصوفي الحقيقي وللصوفية في تفاعلها مع العصر والعلم, ويسهم ذلك في إزالة ما علق بالصوفية من شعوذة وجهالات لحقت بكثير من أتباعها ومريديها ومجاذيبها. وهو أمر يمكن أن يكون مجالا لاجتهاد من جانب الدولة ومن جانب الطرق الصوفية نفسها. بذلك يقدم الصوفيون شحنات دامغة للحياة بالعمل والإنجاز.