في مناسبة الاحتفال بمئوية ميلاد أديب مصر العظيم نجيب محفوظ علي مدي هذا العام(1102) الذي أطلق عليه عام نجيب محفوظ, وإطلاق مشروع الدراسات المحفوظية التي يعكف علي إصدارها المجلس الأعلي للثقافة وتضم أكثر من عشرين كتابا من بين الدراسات التي تصدر لأول مرة يطالعنا هذا الكتاب الجديد للكاتب الكبير يوسف الشاروني بعنوان رحلة عمر مع نجيب محفوظ, حاملا هذا التعريف الشديد الإحاطة والتركيز: رحلة تمتد في الزمن أكثر من نصف قرن, أبدعها الحب, حب المؤلف لنجيب محفوظ الذي نشأ منذ نهايات منتصف القرن العشرين, فأبدع حوارا خصبا بين الجيلين سطرت صفحاته هذه الكتاب, وحب المؤلف لما أبدعه نجيب محفوظ علي مدي هذا الزمن نقدا وإبداعا في سابقة نادرة في تاريخ الأدب العربي المعاصر. ويختتم الكتاب برؤية مجموعة من النقاد والمفكرين لدوره المتفرد في تاريخنا الأدبي المعاصر. وقد بدأ اللقاء بين محفوظ والشاروني في الندوة التي كانت تعقد صباح كل جمعة بأعلي كازينو الأوبرا المطل علي ميدان إبراهيم باشا القريب من ميدان العتبة, وكان قد نشر لمحفوظ رواياته التاريخية الثلاث, ورواياته الاجتماعية القاهرةالجديدة(5491), وخان الخليلي(6491), وزقاق المدق(7491), والسراب(8491), وبداية ونهاية(9491). وانبهر الشاروني خريج قسم الفلسفة ورفاقه من خريجي كلية الآداب وطلبة كلية الحقوق المجاورة: بدر الديب ومحمود العالم وتوفيق حنا وعباس أحمد وأحمد بهاء الدين وفتحي غانم ومصطفي سويف وفاطمة موسي ولطيفة الزيات وأنجيل بطرس ومحمد عودة وحسن فتح الباب. وكان مبعث هذا الانبهار أن محفوظ يقدم لأبناء ذلك الجيل مصر المعاصرة بإيجابياتها وسلبياتها بهذا الأسلوب المتميز. وأصبح الشاروني من أول من كتبوا عن نجيب محفوظ حين نشر دراسة نقدية عن رواية السراب في عدد يناير0591 من مجلة علم النفس التي كان يرأس تحريرها عالم الدراسات النفسية ورائدها الدكتور يوسف مراد. ونمت بين الرجلين علاقة صداقة ومودة لم تنقطع. فمنذ تعارفهما في منتصف أربعينيات القرن الماضي, ومحفوظ يهديه نسخة من كل إبداع أو قصص, بدءا من روايته القاهرةالجديدة. وكانت مكتبة مصر تتولي إرسال إهداءاته وعليها كلمات رقيقة بخط يده حتي حدثت الطعنة التي تلقاها عام4991 وقد نشر نجيب محفوظ53 رواية و91 مجموعة قصصية بالإضافة إلي أصداء السيرة الذاتية. ويري الشاروني أن نجيب محفوظ وجبران خليل جبران هما أكثر الأدباء العرب انتشارا علي المستوي العالمي. ويفصح الشاروني عن واقعة لا يعرفها كثير من محبي نجيب محفوظ وقرائه, حين منحه المجلس الأعلي للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية جائزته التقديرية في الأدب عام8691, قبل حصوله علي نوبل بعشرين عاما, فقد روي له نجيب محفوظ أنه سلم مبلغ الجائزة لسمسار للأراضي للحصول علي قطعة أرض يبني عليها مسكنا له, لكن السمسار توفي ولم يترك أية وسيلة لاستعادة محفوظ أمواله الضائعة, أي أن نجيب محفوظ أبدع, والسمسار هو الذي قبض. أكثر فصول هذا الكتاب الحافل متعة وإثارة هو حوار الأجيال بين نجيب محفوظ ويوسف الشاروني,. وفي هذه الحلقة الجديدة من حوار الأجيال يلتقي الاثنان بعد رحلة طويلة مع الفن والحياة. وقد اختار كل منهما في هذا اللقاء أن يتناول بالنقاش بضعة من ملامح الفن والمجتمع التي تغيرت علي طول هذه المسيرة كالأوضاع الاجتماعية لكل جيل, ومشكلة اللغة, وقضايا التكنيك وعلاقة العلم بالأدب في عصرنا الحاضر. يقول نجيب محفوظ: بالنسبة للطبقة المتوسطة الصغيرة التي نشأت فيها, يمكن القول إنها كانت بيئة تحب الفن لكنها لاتحترمه. لهذا تعودت لمدة كبيرة وأنا في هذه البيئة أن أتستر علي عملي الأدبي, حتي وأنا موظف. فقد تخرجت في كلية الآداب قسم الفلسفة عام.4391 وحتي لا أعرض نفسي للسخرية, لم أستطع أن أقول لزملائي الموظفين إنني كاتب تلك القصص التي تنشر لي في مجلتي الرواية والرسالة خوفا علي سمعتي ورأيت كامل كيلاني في وزارة الأوقاف معي مضطهدا وغير محترم لهذا السبب كانوا يعتبرون أنفسهم الموظفين الأصلاء, وأن هذا دخيل عليهم لايستخق الترقية بسبب انشغاله بالكتابة. والغريب أن مدير إحدي الادارات كان شاعرا, لكن شعره كان امتدادا لوظيفته, أي أنه كان مدحا للوزير أو الوكيل, أي بدلا من أن يتملق نثرا أو شفهيا ليحصل علي ما يريد, يمدحه شعرا. ثم يقول: وإذا كان الحب الطاهر مما يؤخذ عليك في هذه البيئة فقد كان الاقتراب من الجنس مكروها جدا. وكان تعدد الزوجات هو وسيلة التنفيس عن هذه الرغبات بطريقة شرعية أما الجنس علي المستويين الأدبي والاجتماعي فقد كان مرفوضا. وأنا أعتبر أني جازفت مجازفة كبيرة جدا جدا جدا عندما تجاوزت الحب إلي الجنس ومن الجنس إلي الشذوذ في زقاق المدق عام6491, ولعله أول شذوذ في رواية من أدبنا العربي الحديث. فإذا رجعنا إلي معالجة الجنس في هذه الرواية نجدها مكتوبة بطريقة متحفظة بالنسبة لغيرها من الروايات الأجنبية, لأنها لم تتعمق العلاقة كما يحدث فيما يسمونه الأدب المكشوف, ومع ذلك فقد كانت هذه المعالجة المتحفظة مستنكرة بدليل أن رواياتي القاهرةالجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق دخلت مسابقات المجمع اللغوي عام4491, وعندما رأي المرحوم الشاعر علي الجارم عضو المجمع أن اتجاه المازني والعقاد هو إعطاء الجائزة ل زقاق المدق هدد بتقديم استقالته من المجمع, فرأوا أن تعطي الجائزة عن خان الخليلي, ولو أنها ليست في نفس مستوي زقاق المدق كما رفضت القاهرةالجديدة لما فيها من علاقات شاذة. وعندما يثير يوسف الشاروني في حواره مع نجيب محفوظ علاقة الفن بالأخلاق, يعلق نجيب محفوظ بأن أفضل الأدباء الجنسيين من يكون صاحب رسالة واضحة, إذ يمكنه أن يعبر عن رسالته دون تجاوز حدود الحياء الإنساني العادي, وأن وجهة نظره الشخصية أنه يؤمن بأن الجنس يجب أن يكون مقدسا ويجب ألا يبتذل. وعلي كثرة ما أفضي نجيب محفوظ بآراء وأفكار في سياق حواراته التي ضمتها كتب عديدة فإن حواراته التي سجلها يوسف الشاروني في هذا الكتاب الجديد تظل أخطرها وأهمها وأحفلها بالقيمة, وأكثرها إثارة لاهتمام النقاد والدارسين الذين لايزال نجيب محفوظ يتكشف لهم في كل يوم, عن جديد كان ينبغي عليهم أن يعرفوه. الأمر الذي يجعل لهذا الكتاب قيمة خاصة وأهمية غير عادية بين كل ما أصدره يوسف الشاروني من دراسات أدبية ونقدية. المزيد من مقالات فاروق شوشة