يحتار القلم ونحن نعيش الذكري رقم35 لأم كلثوم, حيث كان رحيلها في اليوم الثالث من فبراير1975. ماذا نقول عن أم كلثوم تلك المطربة التي تكاد تصبح اسطورة. عندما قامت ثورة يوليو52 رأي مندوب الثورة بالإذاعة بعد أيام من قيامها وكانوا يطلقون عليه: أركان حرب الإذاعة أن أم كلثوم صوت من الماضي يجب حجبه وذلك رغم أن الإذاعة لم تجد أفضل من أغنية أم كلثوم مصر تتحدث عن نفسها والتي تقول فيها: وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي.. ألخ فكانت الإذاعة تذيعها يوميا علي غيرها من أغنيات الآخرين, وعندما توقفت شعر الناس بأن أم كلثوم اختفت من الراديو, وعندما علم عبد الناصر استدعي ذلك الضابط وقال له: لماذا لاتزيل أهرامات مصر أيضا فإنها من العهود البائدة, وشعر ضابط الإذاعة بالتوبيخ وعاد الراديو إلي تقديم أغنيات أم كلثوم. لقد بدأت رحلتها في عالم الغناء منذ القرن العشرين وعلي وجه التحديد في العقد الأول منه اسمها الأصلي فاطمة إبراهيم البلتاجي, وكان مولدها بقرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية عام1898, حفظت القرآن في صباها, وكانت تغني في الحقول فيطرب الفلاحون لجمال صوتها حتي شاع خبرها فكانت تطوف مع أبيها وأخيها ينشدون في الريف ويغنون وكانت بداية معرفتها في القاهرة عندما ذهبت لتحيي ليلة المولد النبوي في أحد بيوت الوجهاء بضاحية حلوان قرب القاهرة فبهرت الموجودين ومنهم شيخ المنشدين إبراهيم سكر ومنه عرف الشيخ زكريا أحمد بنبأ الفتاة المعجزة فاستدعاها لتغني في مولد الحسين عام1919, لتعريف العامة بها وكان أبوها حتي ذلك الحين يسميها كلثوم, حيث كانت ترتدي ملابس الرجال غالبا وتشاركه في الإنشاد وأحد معاني الكلثوم هو الراية الحريرية المرفرفة وزكريا أحمد هو الذي أضاف به اسمها لفظ أم وكان أول من لحن لها هو أستاذها الأول الشيخ أبو العلا محمد الذي عرفها وهي لاتزال في القرية ثم طلبها الأستاذ صبري اليزيدي وعندما جاءت إلي القاهرة لحن لها الشيخ زكريا أحمد ثم محمد القصبجي وأصبحت أم كلثوم هي أشهر الاسماء الغنائية في مصر والعالم العربي خلال العشرينيات, وأصبحت موضع حسد من المطربات الأخريات, فاخذت بعضهن في انتحال اسم أم كلثوم لما له من معني جميل, وهو ما اضطر سيدة الغناء إلي طبع اعلانات كانت توزع باليد, وتقول أنا وحدي أم كلثوم الأصلية: أنا أم كلثوم إبراهيم البلتاجي ثم نشرت الصحف ذلك الاعلان بعد ذلك. لقد كانت أم كلثوم من أهم مراحل الميلاد الحقيقي للأغنية العربية المتقنة الحديثة فهي التي خلصتها تماما من الأداء العثماني الممزوج بالأسلوب الغجري الذي كان سائدا في ريف مصر وهي التي أنهت تماما الهنك والرنك الذي كان سائدا في أغاني الشيخ المسلوب ومحمد عثمان وقد ساعدها علي ذلك عباقرة الملحنين زكريا أحمد والقصبجي والسنباطي. لقد كانت أم كلثوم هي المطربة التي تسهر الأمة العربية معها في الخميس الأول من كل شهر لتستمتع إلي شدوها وخاصة منذ خمسينيات القرن الماضي بعد تقدم الارسال الإذاعي وتوقيته رغم الخلافات السياسية أحيانا, وقبل الخمسينيات كانت تأتي لمصر عديد من الرحلات العربية لحضور حفلها الشهري الساهر الذي بدأت في إقامته منذ عام1935, واستمرت في احيائه حتي عام1973. كانت أم كلثوم مصرية أصيلة مهمومة بالوطن, مصر وكل أمتها العربية, ومن ذلك أنها لم تغن للشعراء المصريين وحدهم وفي مقدمتهم أحمد شوقي الذي شدت له بتسع قصائد وأحمد رامي وكامل الشناوي وعلي الجارم وعبد الفتاح مصطفي, إلي جانب نزار قباني وجورج جرداق ومن السودان الهادي آدم وغيرهم وقبلهم جميعا بيرم التونسي بالطبع. غنت لانتصارات مصر وانجازاتها وغنت لتشحذ الهمم في نكساتها وهزائمها بل إنها بعد هزيمة67 راحت تلف العالم العربي تغني لصالح ازالة العدوان, كما غنت في باريس وللمساهمة في اعادة تسليح الجيش. ولأن أم كلثوم ليست كأي أحد فإنها عندما اشتد عليها المرض, أذاعت الدولة خبرا في يناير عن مرضها وعند وفاتها انضمت إذاعات مصر الكبري والبرنامج العام وصوت العرب والشرق الأوسط ليذيع وزير ثقافة مصر يوسف السباعي نبأ رحيلها للعالم, كما انضمت القناتان الأولي والثانية كما طلب سيد مرعي وكان رئيسا لمجلس الشعب وطالب أعضاء المجلس الوقوف حداد علي روح فقيدة مصر والعالم العربي, وكانت جنازتها أشبه بجنازة رؤساء الدول. تلك ومضة لسيدة عصر, لفنانة هي كوكب الشرق وزعيمة الغناء نهديها لروحها ولأجيال مصر والعالم العربي, كمثال لفنانة فاقت الالتزام والوطنية.