كانت قد طلعت علينا صورة ناطقة, لهجمة الغزو العشوائي علي ميدان التحرير, تظهر فيه نوعيات تتمسح اسما بالثورة.. فالميدان مفتوح من جميع مداخله, في أيام جمع التظاهر. كانت تلك لقطة منقولة للتليفزيون المصري علي الهواء من ميدان التحرير, قبل وقت الغروب, وعدد من الشباب يصرخون في إصرار علي الاعتصام في الميدان, وأنهم لن يغادروه حتي تستجيب الحكومة لمطالب الثوار( هكذا قالوا).. كانوا مجموعة يبرز وسطهم صاحب الصوت العالي, الذي يعلن اعتراضه علي سياسة رئيس الوزراء الذي لم يكن يعرف اسمه, وحين سألته المذيعة: ما هي مطالبكم؟ لم يستطع أن يجيبها, إلا بعد أن مد يده الي ورقة ليقرأ منها, ويبدأ كلامه بالقول البيان رقم واحد. كانت الصورة ناطقة بأشخاص لا علم لهم, بما هي السياسة.. أشخاص مجهولون للذين قاموا بثورة52 يناير, ليسوا وجوها سبق أن شوهدت في الميدان أيام الثورة, فهم من قفزوا فجأة الي الميدان بعد نجاح الثورة. ولقد شهدنا منذ هذا اليوم, أحداثا تحريضية وتخريبية, قام بها من أصبحوا يعرفون بفلول النظام السابق, وشركاؤهم بالوكالة من محترفي البلطجة الذين قنن لهم النظام السابق وجودا تحت حمايته, عندما توسع جهاز أمن الدولة في استخدام البلطجية, وفي تحركاته للتعدي علي المحتجين, والمعترضين, علي سلوكيات النظام السابق, وعندما فتحت للبلطجية أبواب احتراف مهنة موسمية, هيأها لهم كثيرون من مرشحي الحزب المنحل للانتخابات, لفرض بلطجتهم بالعنف في لجان الانتخابات, وأدت هذه المساندة الرسمية لهم الي تعارف وتقارب فيما بينهم, حتي صار لهم نوع من الهيكل السياسي, والتخصص في الأداء من إثارة الفوضي الي الاعتداء علي الصحفيين والناشطين السياسيين. لكن لم يعد هؤلاء وحدهم يمثلون العناصر المضادة للثورة, فقد أضيفت لهم فئة أخري, استغلت الساحة المفتوحة مداخلها في ميدان التحرير لتقوم بغزو تتري للميدان, وهي فئة تضم باعة جائلين, ومدعين ينسبون أنفسهم زورا لشرف المكان, وعناصر متسكعة تمارس البلطجة الموسمية, حين تلوح لها فرصة انتشال أي شيء تطوله يدها في أجواء الفوضي, وهناك من استهواهم بريق الميدان وشهرته, وتحوله الي رمز, تبدي له الحكومة تقديرا خاصا, فاندفعوا الي الميدان, يحاولون أن يلصقوا أنفسهم بالثورة, فقد تكون لمن في الميدان غنائم ينالون منها نصيبا. ولقد شهدنا أحداثا مفزعة في الميدان الذي صار رمزا للشرف, والنقاء, والوطنية, والانتماء, وتجسدت فيه منظومة قيم, أعادت للمصريين شعورا بقيمتهم وكرامتهم وجعلت دول العالم تقر بأن الصورة التي رأوها في الميدان أيام الثورة, أصبحت مصدر إلهام لهم. لكن هؤلاء الغزاة بلا انتماء أو حس وطني انهالوا علي الميدان في هجمة تشويه رديئة, ولم ننس بعد كيف تجسدت في الميدان, وفي ظروف الغياب الأمني, أعلي مظاهر الانضباط, والتكاتف المجتمعي, من سلوكيات ظهرت في إقدام الكثيرين تطوعا الي تقديم كل ما يستطيعون من خدمات لهذا المجتمع المصغر الذي افترش الأرض في التحرير, معيشة ومبيتا, حتي تتحقق أهداف الثورة, فتوافد علي الميدان أطباء تطوعوا بالجهد والمال ليقيموا مستشفيات ميدانية, وصيدليات, وتباري آخرون في جلب الامدادات المساعدة, مثل البطاطين والخيام الصغيرة, طوال أيام انتظار إرغام الرئيس السابق علي الرحيل. كانت ليالي الميدان الطويلة تشهد سلوكيات تمارس الحياة في تفاؤل ممزوج بالإرادة والإصرار, ثقة في أن الهدف الذي تركوا حياتهم وبيوتهم من أجله سوف يتحقق, فكانوا يقضون الليالي في الميدان, في الأحاديث, والحوارات, والقفشات, والغناء, والعزف علي الآلات الموسيقية, في تناغم إنساني نادر. والآن: كيف نعيد الميدان الي أصله؟.. ونحفظ له صورته النقية ورمزيته؟. إن أعضاء المجموعات التي أطلقت الثورة في52 يناير, يعرفون بعضهم بالاسم, وكانت لهم لقاءات بعيدا عن أعين الأمن, في مقاه وفي أحياء بعيدة عن قلب القاهرة, قبل هذا اليوم بأسبوعين تقريبا, وهم يرتبون وينسقون في هدوء لليوم الذي تخرج فيه المظاهرات من أحياء متعددة لتلتقي في النهاية في ميدان التحرير, بالإضافة الي أن من انضم إليهم في الميدان من البداية وافترشوا معهم الأرض في ليالي المبيت, أصبحوا معروفين لهم تماما. هؤلاء عليهم الآن مسئولية إعلان قائمة بأسمائهم جميعا, خاصة بعد أن بدأنا نشهد تكاثرا لمجموعات كل منها يطلق علي نفسه أسماء ائتلافات الثورة, والغالبية العظمي منهم لم يشاركوا فيها, وهم قد ظهروا فجأة بعد أن تأكد نجاحها, حتي وصل عددهم الي أكثر من051 ائتلافا. إن هناك احتمالا في دعوات لمليونيات قادمة في التحرير, وحتي يمكن حماية سمعة الميدان من فوضي مقصودة, ومن تربص بالثورة, ألا يكون هناك جدوي, من تشكيل الثوار الذين أشرت إليهم للجان تطوعية تتوزع علي جميع مداخل الميدان في أيام التظاهر, وتطلب من كل من يريد الدخول, بطاقة الهوية, والتأكد من أنه لا يحمل سلاحا, ومن تشتبه فيه تطلب فورا من الشرطة والجيش, التأكد من شخصيته والتصرف معه, وفرض القانون علي الجميع بكل قوة وحزم, يضاف الي كل ذلك ما أعلنه مدير الأمن العام من وجود011 ألف مسجل خطر في مصر بالاضافة إلي ماتقدره مصادر أخري من أن عدد البلطجية المحترفين يقترب من نصف مليون فرد. وظهور البنادق الآلية جهارا نهارا في أيدي بلطجية في مشاجرات, أو ترويع للآخرين, وهؤلاء ينبغي أن تمسك بهم الدولة وتعزلهم بعيدا. إن أفكارا جيدة كانت قد كثرت عقب الثورة, في الكيفية التي يتم بها تطوير الميدان, ليظل شاهدا تاريخيا علي ثورة52 يناير, وتحول الميدان الي مركز جذب للشخصيات العالمية, التي حرصت علي التجوال فيه, والالتقاء بأشخاص في الميدان والتحاور معهم, فهل يمكن ترك الميدان لأسراب الغزو التخريبي, يشكلون صورته علي شاكلتهم؟!. إن التحرير لم يعد مجرد ميدان, بل هو رمز لأهم حدث في تاريخ مصر الحديث.. المزيد من مقالات عاطف الغمري