بضعة آلاف من الأعوام تفصلنا اليوم عن نشأة الرياضة في التاريخ القديم عند المصريين والسومريين والصينيين واليونان والرومان. ولكن عقودا قليلة تفصل اليوم بيننا وبين ذلك الزمن الذي تحولت فيه الرياضة من هواية إلي صناعة ومن نشاط بدني تمارسه أقلية إلي قوة سياسية واجتماعية وثقافية فاعلة في كل مجتمع, يمتد بها التأثير إلي العلاقات بين الدول لتصبح وسيلة لنشر ثقافة السلام أو العداء علي السواء. لا أحد يعلم علي وجه اليقين كم تنفق الأمم والشعوب سنويا علي البطولات الرياضية, بوسعك أن تقول200 مليار دولار ولن تكون بعيدا عن الحقيقة. فالشركات التجارية الكبري وحدها تنفق نحو32 مليار دولار علي رعاية البطولات الرياضية, كان هذا المبلغ13 مليارا عام1997 ثم21 مليار اعام2003 ثم27 مليارا عام2005, وخلال تلك الفترة حققت رعاية البطولات الرياضية نموا سنويا نسبته15% منذ نصف قرن بدأت تلك الشركات علاقتها بالبطولات الرياضية من باب التبرع, ثم تحولت إلي أن تكون جزءا أساسيا من استراتيجيات التسويق لكبريات الشركات العالمية, وأصبحت تلك البطولات ساحة لحرب بلا نيران بين كبريات الشركات من أجل الفوز بالرعاية, وبين محطات التليفزيون من أجل حقوق البث لتلتهم عشرات المليارات وتحقق للفائز فيها أرباحا هائلة, الشركات العالمية عكفت علي دراسة صناعة الرياضة واستطاعت تجزئة كل عنصر فيها حتي يتم تسويقه عالميا بدءا من المباريات والمراهنات وصور اللاعبين وملابسهم, وأرقام هذه الملابس كانت الرياضة بالنسبة لهم كنزا ليس فيه شئ غير قابل للبيع. تتصدر وسائل الإعلام العوامل التي تحولت بالرياضة إلي صناعة وسياسة واقتصاد وقوة اجتماعية هائلة التأثير علي نطاق عالمي جنبا إلي جنب مع عوامل أخري, في عام1939 بث التليفزيون أول مباراة رياضية في البيسبول في نيويورك لم يكن التليفزيون قد انتشر بعد, فتم استقبال البث علي الهواء لنحو بضع مئات, وفي دورة الألعاب الأوليمبية الأخيرة في بكين كان التليفزيون يجمع حول بطولاتها الرياضية نحو ربع سكان الأرض. أما الصحافة فقد بدأت علاقتها بالرياضية في القرن الثامن عشر حينما نشرت صحيفة بريطانية أول قصة لها عن مباراة في الملاكمة, وفي خمسينيات القرن الماضي كانت بعض المجلات الرياضية قد تجاوزت حاجز المليون نسخة للمرة الأولي في تاريخ الصحافة, واليوم اصبحت الرياضة أحد مفاتيح البقاء أمام الصحافة في مواجهة التليفزيون والإنترنت, فاضطرت الصحف التي تجاهلت الرياضة علي صفحاتها إلي إعادة التبويب وإنشاء أقسام للرياضة. لم تعد الرياضة مع وسائل الإعلام منذ ستينيات القرن الماضي كما كانت من قبل, فقد جاءت وسائل الإعلام إلي الملاعب الرياضية تحمل معها المال والسياسة والتأثير الاجتماعي, جاء التليفزيون ليجعل للألوان في الرياضة أهمية غير مسبوقة تغيرت كرة التنس من الأبيض إلي الأصفر وتغير شكل ملعب كرة القدم وتغير خط الوسط في الهوكي من الخط المتصل إلي الخط المتقطع خدمة للتليفزيون, وتغيرت ملابس اللاعبين, حتي توقيت المباريات تغير ليلائم التليفزيون,ومع وصول تقنيات إعادة اللقطات في التليفزيون عام1963 ظهر الجدل حول إمكانية الاحتكام الي هذه الإعادات لتغيير قرارات الحكام في أرض الملاعب. والحقيقة أيضا أن الرياضة منحت وسائل الإعلام فرصة فريدة لتحقيق شعبية هائلة تمكنت من بيعها للمعلنين بأرقام خيالية, فقد دفعت إحدي الشركات1.6 مليون, دولار ثمنا لثلاثين ثانية في نهائي بطولة كرة السلة الأمريكية, وهي أغلي30 ثانية في التاريخ وسوف تفعلها الرياضة مرات ومرات, شركة تايم وارنر التي يبلغ دخلها السنوي نحو35 مليار دولار تري أن الرياضة هي أحد اثنين من الجياد التي يمكن أن تصل بها إلي الأسواق العالمية, شبكةESPN التابعة لها تسيطر تقريبا علي التليفزيون الرياضي الدولي فهي تعمل عبر165 دولة علي مدار الساعة. فلسفة عمل الشركة أنها تفكر عالميا ولكنها تستجيب للأذواق المحلية, فهي تهتم بكرة القدم في أمريكا اللاتينية وتنس الطاولة في آسيا وفي الهند تبث نحو1000 ساعة سنويا من مباريات الكريكيت, والتليفزيون الصيني يشتري أكثر من نصف احتياجاته من البرامج الرياضية من هذه الشبكة الدولية, هذه الشركات العالمية تحاول أن تدفع العديد من الرياضات إلي اهتمام الناس في سبيل جذب المزيد من أفراد الجمهور إلي عالم الرياضة. ارتبطت الرياضات المختلفة بالطبقات الاجتماعية, فقد أصبحت الملاكمة والمصارعة الأكثر ارتباطا بالطبقات الدنيا في المجتمع, بينما ارتبطت رياضات أخري بالطبقات العليا في المجتمع, هذا الارتباط الرياضي الطبقي كان له تأثيره في عمليات التسويق فالرياضات ذات الجمهور الأعلي دخلا كانت أغلي سعرا حتي جاءت كرة القدم لتحدث جسرا هائلا بين الطبقات في كل المجتمعات, فقد زادت شعبيتها بين كل الطبقات حتي الأرستقراطية الأوروبية التي تجاهلتها زمنا, ففي عالم الرياضة لا يمكن تقسيم العالم إلي دول متقدمة واخري نامية ولايمكن تقسيم المجتمع مع كرة القدم إلي طبقات, وخلال المستقبل المنظور من الصعب أن تحتل رياضة أخري مكانة كرة القدم. هذه الشعبية لكرة القدم حولتها إلي أداة لاختبار المشاعر الوطنية في مباريات الفرق القومية, بعض علماء النفس يرون أن فكرة المنافسة وتحقيق النصر تهيمن تماما علي الرياضة وهي البديل لمشاعر النصر والهزيمة التي كانت المعارك ساحتها القديمة, ومن هنا تبدو أهمية الرياضة في تحقيق السلام العالمي لأنها بديل نفسي عن الاقتتال القديم ينفس عن مشاعر الغضب والمواجهة مع الآخر, في دورة الألعاب الشتوية عام1980 فاز الفريق الأمريكي للهوكي علي الفريق السوفيتي وكانت مشاعر الفوز لدي الأمريكيين تتجاوز المعني الرياضي للفوز, ولم يكن هناك تفسير لما حدث سوي التنفيس عن مشاعر الضيق التي سادت بين الأمريكيين بسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان, فقد كانت هزيمة الفريق السوفيتي بديلا عن دحر القوات السوفيتية الغازية, وفي عام1985 فاز الفريق الكندي لكرة السلة علي الفريق الأمريكي, وكانت فرحة الكنديين عارمة لأنها كانت تعبيرا عن الإحباط الناتج عن شعور الكنديين بأنهم ينامون علي سرير واحد مع فيل ضخم هو الولاياتالمتحدة, وحينما فقد العداء الجامايكي بن جونسون الميدالية الذهبية في أوليمبياد سيول عام1988 بسبب تعاطي المنشطات كان سكان جامايكا يعيشون أسوأ لحظات حياتهم الوطنية. لقد عدلت الرياضة من مفهوم الناس للبطل والبطولة, الرياضيون اليوم هم الأبطال الذين يحتفظون بشئ من مفهوم البطولة القديم التي اعتمدت علي أداء الجسد البشري تماما, وربما كان الرياضيون وحدهم هم الذين لايزالون يحتفظون بهذا المعني من معاني البطولة, غير أن وسائل الإعلام جعلت للبطولة معني أوسع كثيرا من هذا المفهوم القديم, أصبح الأبطال اليوم هم منتهي آمال الشباب وطموحاتهم, فقد جعلتهم وسائل الإعلام أشبه بأبطال الأساطير الإغريقية القديمة ولكن أثرياء إلي حدود بعيدة, وفي حديث ثراء الرياضيين لا مجال لمقارنتهم بغيرهم فهم ينتمون لصناعة غنية تزداد شعبيتها ويتنامي ثراؤها عاما بعد آخر, فالذين ينتقدون ثراء لاعبي كرة القدم هم أنفسهم الذين يتكفلون بتوفير دخولهم العالية.