قامت نهضة مصر الحديثة منذ مطلع القرن التاسع عشر في عهد محمد علي باشا علي الأخذ المتزايد من الغرب من أجل تحديث الجيش والإدارة ونظم التعليم والاقتصاد وتخطيط المدن والحياة الحضرية ونظم السياسة والحكم. الأخذ المتزايد عن الغرب ارتبط بتقليص دور الثقافة والمؤسسات التي كانت موجودة في المجتمع المصري في مراحل ما قبل بدء النهضة الحديثة, ومن ذلك دور المؤسسة والثقافة الدينية, وقد حدث هذا من غير وجود موقف معاد للدين والمؤسسة الدينية, فالوسطية المصرية التي تجمع الدين مع الحداثة كانت دوما هي السائدة, وهي الوسطية التي ساهم في تطويرها ليس فقط دعاة الحداثة من أمثال رفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وعبد العزيز فهمي ومحمد حسين هيكل, وإنما أيضا دعاة الإصلاح الديني الكبار من أمثال الشيخين حسن العطار ومحمد عبده, حتي أن مثقفي وإصلاحيي الحداثة والإصلاح الديني كليهما يعتبرون معا الآباء المؤسسين لعصر النهضة المصرية الحديثة. ظهور حركة الإخوان المسلمين في نهاية العشرينيات كان إعلانا بحدوث انشقاق في صفوف حركة التحديث الوسطي المصرية, ودليلا علي أن بعضا من المصريين بات يري في صيغة الآباء المؤسسين الوسطية تفريطا وأخذا عن الغرب بأكثر مما ينبغي. غير أن ظهور الإخوان في سنواتهم الأولي لم يمثل سوي تحديا محدودا لتيار النهضة الوسطية الذي استمر في الفوز بتأييد القسم الأكبر من النخب المتعلمة التي واصلت الحصول علي تنشئة نهضوية وسطية في مؤسسات التعليم الحديث, ومن الجمهور الذي واصل القسم الأكبر منه الالتفاف حول حزب الوفد الذي يعتبر التنظيم السياسي والتجسيد التاريخي لتيار النهضة الوسطية الذي يرجع له الفضل في تأسيس مصر الحديثة, وقد واصل حزب الوفد القيام بهذا الدور حتي استيلاء الجيش علي السلطة في عام1952 برغم مظاهر الضعف التي كانت قد بدأت في الظهور علي الحزب في الأربعينيات. أتاحت قوة الوفد ونخب النهضة الوسطية الفرصة لاحتواء التيارات الإسلامية الصاعدة قبل ثورة23 يوليو دون الحاجة للجوء للقمع الذي لم يحدث إلا في نهاية الأربعينيات عندما تورطت حركة الإخوان في الإرهاب بعدما كاد جناح جماعة الإخوان المسلح المعروف بالنظام الخاص يخطف الجماعة ويسيطر عليها. أما في حقبة ما بعد يوليو, فقد نجح مزيج الشعبية الناصرية والقمع في احتواء التيارات الإسلامية حتي نهاية الستينيات, أما في المرحلة التالية لذلك, فقد اعتمدت النخب الحاكمة في عهدي السادات ومبارك سياسات احتواء التيار الإسلامي من خلال المناورة والدمج الجزئي والحفاظ علي التوازنات وتكييف الخطاب الإعلامي, بالإضافة إلي القمع المتقطع والانتقائي, والذي كان في كل الأحوال أخف وطأة من القمع المعمم الذي تعرضت له كافة التيارات السياسية خلال المرحلة الناصرية. القدر الكبير من الحرية الذي يتمتع به المصريون بعد ثورة يناير, والضعف الذي لحق بأفكار النهضة الوسطية والنخب التي تمثلها, كل هذا يزيل من طريق التيارات الإسلامية عقبات كانت موجودة في مرحلة سابقة, الأمر الذي يطرح علي الكثيرين في مصر سؤالا جوهريا حول الطريقة التي سيتحقق بها التعايش بين التيارات السياسية والإيديولوجية المختلفة في مرحلة لم يعد فيها ممكنا احتواء التيارات الإسلامية بالاعتماد علي آليات وأساليب تم استخدامها في مراحل سابقة. القوي الاجتماعية والسياسية المختلفة سوف يكون عليها بالتكيف بأشكال مختلفة مع الواقع المتغير. أهم ملامح هذا التكيف هو تغيير شكل ومكونات الخطاب السياسي وأساليب المحاجاة والبرهنة التي يتم الاعتماد عليها. فخلال المراحل السابقة اتسم الخطاب السياسي في مصر بالتعددية والتوازي والانفصال, فكان هناك خطاب, أو بالأصح خطابات إسلامية تتجاور معها خطابات غير دينية بأشكال ومعان مختلفة, ولم يكن أصحاب النوعين من الخطاب مضطرين لتجسير الفجوة بين الخطابين, فكل منهما يتوجه إلي جمهور مختلف في مجال سياسي اتسم بالاستبداد والانغلاق والانقسام والجمود. وفي الوقت الذي غاب فيه حوار فكري/سياسي حقيقي بين أصحاب التيارات المختلفة, كان تبادل النقد والتلاسن والمناظرة هو السمة الغالبة علي التفاعل بين هذه التيارات, ولم يكن أحد في حاجة لأخذ الآخر الإيديولوجي بعين الاعتبار, فلم يكن في هذا فائدة ترتجي في كل حال. أما في المرحلة الراهنة فقد انفتح المجال السياسي وزالت الحواجز بين مجالاته ومكوناته الدينية وغير الدينية, وأصبحت القوي السياسية والإيديولوجية جميعها تعمل في سوق سياسية واحدة تتداول فيها الأفكار والشعارات بلا حماية مصطنعة أو دعم يخل بقواعد المنافسة, وبات لزاما لأي تيار يسعي للفوز بتأييد الجمهور في انتخابات حرة ونزيهة أن يطور خطابا قادرا علي التواصل مع جمهور أوسع من جمهوره الخاص الذي يظل ضيقا مهما اتسع. فلا الخطاب الإسلامي الجامد ولا الخطاب المدني الصرف قادران علي تحقيق التواصل المطلوب مع جمهور يسعي الجميع للفوز بأصواته. ومع أن التطاحن الإيديولوجي مازال يمثل السمة الغالبة علي الجدل العام في مصر, إلا أن هذا الصراع يجب ألا يكون سببا في الانزعاج, فقوانا السياسية مازالت في مرحلة تقديم نفسها للجمهور, ولهذا تجدها مشغولة بالتأكيد علي هوياتها الخاصة أكثر من تأكيدها علي المشتركات بينها وبين القوي السياسية الأخري. بالإضافة إلي هذا فإن ملامح التغير بدأت في الظهور علي الخطاب السياسي لقوي سياسية مصرية, فوجدنا نشطاء ومفكرين إسلاميين يؤكدون علي مدنية مشروعهم السياسي وعصريته, بينما أرغمت الانتقادات الحادة إسلاميين متشددين علي التراجع أو الاعتذار عن أفكار لم تعد مقبولة في أيامنا هذه. في الوقت نفسه رأينا نشطاء ومثقفين مدنيين يلجأون بشكل متكرر لاستخدام حجج دينية لتعزيز أفكارهم المدنية بطريقة تختلف عما اعتادوا عليه في الماضي, كما وجدنا آخرين منهم يحجمون عن طرح بعض من أفكارهم أو يعدلونها بعد أن تبين لهم صعوبة الدفاع عنها في ساحة سياسية مفتوحة. بالإضافة إلي ذلك فقد ظهرت تيارات فكرية وتنظيمات سياسية تقوم علي مبدأ الوسطية الجامعة, مثلما هو الحال في التيار الذي يطلق علي نفسه اسم التيار الرئيسي, أو في أحزاب تصف نفسها بأحزاب برامج وليس أحزاب إيديولوجيات, لتجنب الدخول في الجدل الإيديولوجي الذي يفرق ولا يجمع, ولتسهيل التواصل مع الأغلبية من الناخبين. الشرط الرئيسي لاستكمال عملية جسر الهوة بين مكونات الجماعة السياسية المصرية هو استكمال بناء الديمقراطية المصرية. فالتنافس السياسي بين الأحزاب والجماعات المختلفة علي أصوات المواطنين يدفع الأحزاب المتنافسة للتحرك إيديولوجيا وسياسيا ناحية الوسط حيث يوجد القسم الأكبر من جمهور الناخبين غير المنشغلين بصراعات الديوك الإيديولوجية بقدر اهتمامهم بالبرامج العملية علي أرضية عامة من قيم ومبادئ الوسطية والاعتدال التي تميز الأغلبية في أي مجتمع, خاصة في المجتمع المصري. تحدث هذه التغيرات في المجتمع السياسي المصري بينما مازالت جماعات متشددة تقف بإصرار وتطرف في أقصي جانبي المشهد السياسي المصري, متمسكة بخطابها السياسي والإيديولوجي القديم, وتنظر باحتقار وتعال إلي جهود تجسير الفجوة باعتبارها تنازلات مبدئية غير جائزة, وهناك من ممثلي هذه القوي من لا يعرف طريقة للتعبير عن نفسه سوي الاستهانة بالآخر السياسي والإيديولوجي وأفكاره, وبرغم سخونة الجدل الذي يثيره أمثال هؤلاء, فإن الانتقادات الحادة التي يقابلون بها تساهم في رسم الخطوط الحمراء للتمييز بين المقبول وغير المقبول من الأفكار وطرائق التعبير, وهي الخطوط التي ستساهم في وضع قواعد الحوار العام بطريقة تسهم في تلطيف الحوار, وتدوير الأركان والحواف المدببة للخطاب السياسي. وإذا تقدمت الأمور في المجتمع المصري في الاتجاه الصحيح نحو النضج الإيديولوجي والفكري والسياسي, فإن المرجح هو أن نفوذ التيارات الأكثر تطرفا سيأخذ في التراجع والانحسار تدريجيا, وأن أصحابها سيواصلون الاستمتاع باستقامة إيديولوجية مفترضة علي حساب قدرتهم علي كسب الأنصار وحشد المؤيدين, أما التحدي الأصعب الذي سيواجه القوي السياسية في المرحلة القادمة فهو تحدي الحفاظ علي التمايز والهوية الإيديولوجية والبرنامجية بينما تتحرك في اتجاه الوسط,, وبينما تطور خطابها السياسي والإيديولوجي بشكل لا يسمح بالتمايز اللفظي الفاقع.