عقب انهيار النظام البوليسي الفاشي استردت الجامعة المصرية بعض العافية.. خرج الحرس الجامعي, وعادت الجامعة كيانا مدنيا هادئا بلا تشريفة عسكرية.. وخرج جهاز أمن الدولة( السافاك المصري), واستراح الناس من تدخلات مشينة في شئون أهل العلم والطلاب بما لا يليق بأمة متحضرة.. ووأجرت الجامعة لأول مرة منذ عقود انتخابات طلابية نزيهة وشفافة, شارك فيها الطلاب المنتمون إلي القوي السياسية المختلفة.. ثم كان مشروع القرار الوزاري بإعادة المادتين122,121 من قانون الجامعات إلي وضعهما السابق الذي يجعل الأساتذة المتفرغين مستمرين في تفرغهم إلي نهاية العمر, أو الخروج حسب رغبتهم, وكان ذلك تصحيحا لأوضاع انتقامية صنعها بعض الوزراء السابقين, أتاحت لبعض أعضاء هيئة التدريس من الدخلاء علي محراب العلم أن ينكلوا بأساتذتهم, وأن يمارسوا نوعا من الإهانة لا يليق في هذا المحراب العظيم! كل هذا خطوة أولي علي الطريق الصحيح لاستعادة الجامعة مكانها ومكانتها في الواقع الاجتماعي والحضاري للأمة المظلومة. وكنت أتمني أن يكون وزير التعليم العالي الحالي الذي أقيل من قبل في ظروف غامضة لا أعرفها تماما, أن يكون منحازا بوضوح قاطع إلي الجامعة أكثر من انحيازه إلي النظام القديم الذي كان معاديا للجامعة وكارها للعلم, ومحتقرا للعلماء! وأسمح لنفسي أن أحكي قصة قديمة تكشف عن التفاوت بين رؤية الوزير, ورؤية رئيس جامعة سابق.. هو الدكتور عزت سلامة رئيس جامعة القاهرة الأسبق, ووالد الوزير الحالي الدكتور عمرو عزت سلامة, كانت للدكتور عزت مواقف مضيئة, مع أنه كان يعمل في ظل النظام البائد وأجهزته القمعية البشعة, ومنها موقفه عندما أراد بعض أتباع السلطة البوليسية الفاشية من الأساتذة ترقية واحد منهم ترقية إدارية بقوة الذراع عبر موافقات القسم ومجلس الكلية, بعيدا عن رأي لجنة الترقيات التي رأت أن صاحبهم لا يستحق الترقية.. ولأن عزت سلامة كان رجل قانون يتعامل بمنطق القاضي, فقد اختار أستاذا متخصصا مشهودا له بالأمانة والكفاءة العلمية, وأسند إليه سرا تقويم أعمال المطلوب ترقيته, فكتب الرجل تقريرا يؤيد ما وصلت إليه لجنة الترقيات, بل اكتشف عوارا كبيرا ونقصا شنيعا في المستوي البحثي في الأعمال المعروضة للترقية, ولم يأبه عزت سلامة بالإرهاب الصحفي والإعلامي الذي مارسه أعوان النظام السابق من خلال الصحف وأجهزة الدعاية التي كانوا وما زالوا يهيمنون عليها, واتخذ القرار الذي أملاه الضمير العلمي, ولم تفلح محاولات لي الذراع! المفارقة أن الدكتور عمرو لم يقتد بوالده ولم يسلك المسلك الذي تفرضه المرحلة, مع أنه جاء ليقوم بعملية تصحيح في الواقع الجامعي, بعد أن صارت الجامعة المصرية خارج أي تصنيف دولي أو إقليمي, وعمرت بكثير من المشكلات والعاهات, وأضحت ملعبا لجهات القمع والفاشية وأتباع جهاز الأمن لقد بدا الوزير مترددا, وترك من جاء بهم الأمن يمارسون منهجهم القديم, واشتعلت النار في أكثر من مكان, ولعل أبرزها ما جري في كلية الإعلام بالقاهرة, وكان يمكنه حسم المسألة من البداية بإقالة العمداء موضع الخلاف ورئيس الجامعة الذي انحاز لطرف دون الآخر, أو الإعلان عن انتخاب عمداء جدد مؤقتين, وتعيين أحد نواب رئيس الجامعة للقيام بعمله مؤقتا حتي يتم تغيير القيادات, وإحلال قيادات أخري جديدة علي أسس متفق عليها. إن البحث عن حلول عملية يفرض التعامل مع الأساتذة الذين لم يدخلوا تحت عباءة الأمن بقدر كبير من التفاهم والتسامح, لأنهم لم يخونوا الوطن أو المعرفة, وكانوا حريصين في ظل النظام البوليسي الفاشي علي رفع راية العصيان ضد سرقة الجامعة; سواء كانوا في تنظيمات جماعية أو قاموا بواجبهم بشكل فردي مستقل.. سأضرب مثلين بإيجاز شديد لبعض القيادات التي جعلت ربها الأعلي ضابط الأمن الذي كان يسكن في قلب الجامعة, أو النظام البوليسي الفاشي الذي كانت روحه تغشي الأساتذة العملاء, فتعميهم عن الحق والحقيقة, وتضعهم في خانة غير جديرة بهم.. المثال الأول لرئيس جامعة سابق في إحدي الجامعات الإقليمية, صادف وهو يهبط سلم الإدارة لافتتاح أحد مشروعات الجامعة; ضابطا صغيرا في عمر أولاده برتبة نقيب, فقال له في ذلة وخنوع: أنزل أم أصعد ؟ يقصد إن كان الضابط يريده أو لا. فنظر إليه الضابط مستغربا, وقال: اطلع أو انزل.. انت حر! ومضي الضابط تاركا صاحبنا يفتش في رأسه عن مغزي كلامه! المثال الآخر لمدرس قديم في إحدي الجامعات الإقليمية أيضا, حصل علي الدكتوراه بطريقة ما منذ عشرين عاما, وكان منذ شبابه وهو طالب في الجامعة يكتب تقارير أمنية عن زملائه وأساتذته حتي صار مدرسا وعضوا في أحد المجالس النيابية والحزب الوطني, وأصبح نفوذه يفوق نفوذ رئيس الجامعة نفسه, فقد ضبط سارقا لكتاب بأكمله حرفيا, وقد وضع عليه اسمه بعنوان آخر, ونشرت الصحف, وتحدث الناس عن هذه الجريمة النكراء التي تذهب بصاحبها إلي السجن والطرد من الجامعة, ولكن العجيب أن يستدعيه رئيس الجامعة ليس لمحاسبته وتقديمه لمجلس تأديب كما يقضي قانون الجامعة, ولكنه استدعاه ليناقش معه كيفية مواجهة أصحاب الاتهام ؟! وإن أفضل الحلول كما أتصورها, تحبذ الخطوات التالية: أولا: إجراء انتخابات في المستويات الإدارية الثلاثة في الجامعة, وهي رئاسة القسم, والعمادة, ورئاسة الجامعة. وأيا كان القول عن سلبيات الانتخاب من تكوين شلل ومحاباة وغير ذلك, فهي أهون من التعيين وكوارثه. ثانيا: وضع حد أقصي لدخل رؤساء الجامعات, وما يحصلون عليه من الموارد المتنوعة, لوقف التقاتل علي المنصب من أجل عائده, وليكن المنصب نوعا من التكريم العلمي والأدبي لصاحبه ليس إلا. ثالثا: هز الجهاز الإداري في الجامعات, خاصة في الجامعات الإقليمية, فقد تورم هذا الجهاز, وافتقد كثيرا من التقاليد الجامعية, ومع كثرة الموظفين فقد صار انتقال ورقة من مكتب إلي مكتب مجاور يستغرق شهورا أحيانا, وصارت البلادة حاكما لحركة الجهاز الإداري, ويمكن أن تجد مشكلة صغيرة تبقي سنوات لأن الموظف المختص لا يريد حلها اعتمادا علي تفسير بند في اللائحة أو تعللا بذريعة واهية. رابعا: إن حل مشكلة مرتبات الأساتذة يجب أن يحظي بأولوية تعيد للأستاذ كرامته وهيبته, وتنزع مسوغ الانحراف من بعض أعضاء هيئات التدريس الذين يلجأون إلي الدروس الخصوصية أو سرقة كتب الغير, أو فرض مذكراتهم الرديئة علي الطلاب بالقوة. خامسا: حل مشكلة الكتاب الجامعي بتولي الكليات اختيار الكتب المناسبة وطبعها وتسويقها بالسعر المدعوم أو الملائم, وتحديد مكافأة ثابتة لعضو هيئة التدريس وفقا للدرجة العلمية; عوضا عن كتابه, وصرفها علي مدار العام مع المرتب. وفي المقابل يحرم علي العضو أن يقرر من جانبه أي كتاب أو مذكرة. المزيد من مقالات د.حلمى محمد القاعود