إن كانت العدالة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق التنمية الحقيقية في المجتمعات الحالية, فهي في نفس الوقت, ليست فكرة مطلقة فإن المرء لا يستطيع أن يقوم بمقتضاها, ببناء ما أطلق عليه الاقتصادي والمفكر الهندي الشهير أمارتيا سين, الحائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد قصورا مثالية في الهواء ولكنه يستطيع أن يبني مجتمعا أقل ظلما. واليوم عندما ندعو في مصر, وبعد ثورة52 يناير إلي محاكمة الجناة الذين حرموا الوطن من التقدم الاقتصادي والاجتماعي المأمول, وحرموا المواطنين من حياة كريمة وحقوق أساسية, تخرج بعض الأصوات تنبه وتحذر مما وصفته بالانتقام والقصاص والثأر, وتقول تلك الأصوات ان هذا الشعور لن يطبق العدالة الحقيقية, ولن يساعد الأجيال علي التقدم نحو مستقبل أفضل, كما نريد, وطرح هؤلاء أمثلة علي مجتمعات مثل جنوب أفريقيا وأسبانيا وتشيلي, حيث سقطت النظم الفاسدة فقام النظام الجديد بعقد جلسات مصارحة ومصالحة ومسامحة, حيث قام الجناة بالاعتراف بجرائمهم والاعتذار عنها, وقام الشعب بمسامحتهم وتصالح مع التاريخ, وهو ما كان من شأنه أن أزيلت الاحقاد والكراهية ومشاعر الظلم التي قد تكون عائقا أمام التقدم في العصر الجديد, واثبتت التجربة صلاحيتها عندما طوت المجتمعات الجديدة في تلك البلاد الصفحة وبدأوا عهدا جديدا حققوا فيه التقدم الذي ينشدونه. نعم, هناك جرائم تملك الشعوب الحق في المسامحة فيها والمصالحة بعد اعتذار مرتكبيها, وهناك جرائم لا نملك فيها هذا الحق. الجرائم الأولي هي تلك التي ترتكب ضد المواطنين, مثلما حدث في جنوب افريقيا التي عاني فيها الشعب الأسود من ظلم قوانين الفصل العنصري لعقود من الزمن, أو في أسبانيا حيث القي الالاف من المواطنين في سجون فرانكو أو في سجون بينوشيه في تشيلي, في تلك الحالات فإن من وقع عليه الضرر يملك أن يسامح ويقبل اعتذار الجناة ويملك أيضا طي صفحات الظلم إلي الأبد لكي يبدأ عصرا جديدا. ولكن هناك جرائم لا يملك المواطن حق المسامحة فيها وهي الجرائم التي ارتكبت في حق الوطن. في الأمثلة السابق ذكرها لم يتضرر الوطن من جراء سياسة الفصل العنصري أو سلبيات فرانكو المستبدة بل بالعكس, فقد اصبحت جنوب أفريقيا من أغني وأكثر دول افريقيا تقدما عن الدول الأخري, في كل القطاعات, كما قام نظام فرانكو بتنمية أسبانيا اقتصاديا وسياحيا, لذلك كان من الممكن ان تتم المصالحة التاريخية. وفي مصر, يمكن عقد مثل تلك الجلسات حيث يقوم الجناة بالمكاشفة والاعتراف بجرائمهم التي ارتكبت في حق المواطن والتي يصل بعضها إلي حد اعتبارها جرائم ضد الإنسانية والاعتذار عنها. ومن جهتهم, يملك المواطنون حق قبول الاعتذار والمسامحة مع الجناة فيما لحق بهم بصفة شخصية فيتم تنقية النفوس وازالة الأحقاد. ولكن المواطنين لا يملكون المسامحة في الضرر الذي وقع علي الوطن. فلا يملك الشعب التسامح في المليارات التي نهبت من وطن فقير ولا في اهدار الأراضي الزراعية وتجريفها ولا في اهدار المياه لصالح حفنة من المواطنين, بينما يتم ري الزراعة بمياه الصرف الصحي, ونتجاهل أزمة المياه إلي أن تتحول إلي كارثة حقيقية, ولا في بيع أراضي الوطن للشركات الأجنبية حتي أراضي سيناء التي استشهد الالاف من أ جل استردادها, ولا في تدمير الصناعات القومية سواء الثقيلة أو الاستهلاكية وبيعها, وتجبر المواطن علي شراء احتياجاته من سلع مستوردة بأسعار عالمية ناهيك عن تدمير المنظومة التعليمية وتقسيم البلاد طائفيا وطبقيا وثقافيا. كل تلك ممارسات هي جرائم في حق الوطن, لأن لولاها لكانت مصر اليوم في مصاف الدول القوية اقليميا, ولكانت ملكت مصيرها وحققت اكتفاءها الذاتي وثبتت استقلالها القومي. وهذه الجرائم التي ارتكبت في حق الوطن لا يملك الشعب المسامحة فيها لانه كما يقول أحد الحكماء: أننا لم نرث هذا الوطن من آبائنا بل اقترضناه من أبنائنا. ويوما ما سوف يسألنا أحفادنا عما اقترفناه في حقه. لذلك فإن طالبنا بالمحاكمة والعقاب لمن تثبت إدانته فإن ذلك لا يدخل في حيز الانتقام أو الثأر, ولكن في إطار تحقيق العدالة من أجل الوطن ومن أ جل أحفادنا من بعدنا وحتي لا تتكرر أخطاء وجرائم الماضي في المستقبل. [email protected]