الرجل الذي عرف ولم يتكلم اختفي الدكتور أسامة الباز عن الأنظار في هدوء شديد بعد نحو04 سنة في مطبخ الأحداث إلي جانب مبارك, مفضلا الاسم الذي اختاره دائما, وهو مدير مكتب الرئيس للشئون السياسية. وأسامة الباز من مواليد1931 وقد تخرج في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام1952وبعد أشهر من تخرجه عين وكيلا للنيابة وهو منصب كان يختص به المتميزون.. ولهذا فإنه بعد فترة قصيرة سافر إلي أمريكا حيث حصل علي الماجستير في القانون من جامعة هارفارد. ولم يجلس الباز علي منصة القاضي, فقد ظهرت كفاءته في مجال آخر انتقل بسببها إلي وزارة الخارجية التي ارتبط بها وترقي فيها إلي درجة وكيل أول الوزارة, إلا أنه لم يعمل يوما في سفارة, فقد التقطه إسماعيل فهمي وزير الخارجية في زمن الرئيس أنور السادات وعينه مديرا لمكتبه.. وعن هذا الطريق تعرف إليه أنور السادات, واكتشف قدراته القانونية ومتابعته الأكاديمية للقضية الفلسطينية, مما جعل السادات يكلفه بكتابة عدد من التقارير والخطابات كان أهمها بلا شك الخطاب التاريخي الذي ألقاه أنور السادات يوم20 نوفمبر1977 في الكنيست أو البرلمان الإسرائيلي, وقد روي الدكتور بطرس بطرس غالي الذي كان وزير دولة للشئون الخارجية أن مبارك وكان نائبا للرئيس اتصل به وطلب إعداد الخطاب الذي سيلقيه السادات والذي ستسلط عليه عيون العالم وقال غالي إنه سهر الليالي في جمع الكتب والدراسات التي استخرج منها الدفوع والحجج, وكتب خطابا جلس يستمع إليه في الكنيست فقد كان مرافقا للرئيس السادات في رحلته, إلا أنه كما ذكر وجد أن السادات لم يستخدم شيئا من خطابه الذي سهر عليه, وإنما ألقي خطابا جديدا تماما, وباعترافه قال غالي إن الخطاب الذي ألقاه السادات كان أكثر فهما للمناسبة, وأفضل من لغة الخطاب الجافة التي استخدمها وهذا الخطاب الذي ألقاه السادات كتب الجزء القانوني منه أسامة الباز, بينما تولي موسي صبري الصحفي الكبير كتابة الجزء الإنساني من الخطاب الذي يعد في مجمله من أهم خطب السادات. مؤامرات القصر وفي مطبخ الرئاسة تكثر المؤامرات والصراعات, ولكن أسامة الباز استطاع الهروب من هذه الصراعات بوضع نفسه في المكان والزمان اللذين تتم الحاجة إليه فيهما, ولهذا كان إذا غضب في فترة عمله مع حسني مبارك أو شعر أنه في موقع عدم الرضا اختفي عن الأنظار, حتي يسأل عنه الرئيس فيقلبون الدنيا بحثا عنه ويفهم أنه أصبح مطلوبا فيعود. وإذا كانت أكبر مشكلة تواجه الذي يعمل مع الحكام أن تكون له احتياجات دنيوية, يضطر للخضوع أو لتنازلات من أجل الوصول إليها, فإنه بالنسبة لأسامة الباز كان زاهدا بسيطا يجلس إلي جانب السائق ويغير في مكتبه ملابسه التي لم يكن يهتم بأناقتها, وفي كثير من مشاويره يستقل السيارة التاكسي, وعندما سكن في المعادي كان يستخدم مترو الأنفاق, ويسير علي قدميه من محطة المترو إلي بيته, وهو يخطو خطوات سريعة ويضع يديه في جيب بنطلونه, وكان يمضي الساعات الطويلة في عمله, ويختفي في الليل بعيدا عن الأضواء, وهو دائما مستعد لكتابة أي مذكرة, فهو في جميع الأوقات جاهز ومستعد يحمل مظروفا يضم كمية من الأوراق التي يكتب عليها بخط كبير جميل ينم عن أناقة أفكاره وسلاستها. فهم مقدما أهمية القضية وقد أدرك أسامة الباز مبكرا منذ1967أن القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل سيكون الموضوع الأول في الدبلوماسية المصرية, فكان أن تخصص في هذه القضية وأصبح وجوده إلي جانب الرئيس ضروريا للاستفادة من خبرته خاصة بعد أن تطورت الأحداث, وجرت مفاوضات السادات مع مناحم بيجين والرئيس الأمريكي كارتر في كامب ديفيد. ورغم المساعدين الكثيرين الذين كانوا حول السادات في كامب ديفيد, إلا أن أسامة الباز كان الوحيد الذي يبوح إليه السادات, ويطلب إليه صياغة أفكاره. وقد كان أسامة الباز من الأشخاص الذين عهد إليهم السادات فتح نوافذ المعرفة السياسية أمام حسني مبارك الذي كان مادة خام عندما اختاره السادات نائبا للرئيس عام1975, وبالفعل ظل الباز إلي جانب حسني مبارك نائب الرئيس يعمل في صمت إلي أن تولي مدير مكتب مبارك للشئون السياسية, بعد أن أصبح مبارك رئيسا للجمهورية, وقد حاول أن يجعل مبارك يتقبل فكرة أن يكون له لقاء في شكل صالون يجمع فيه المفكرين الذين يضيفون بمناقشاتهم إلي فكر مبارك, وربما قبل مبارك الفكرة مرتين أو ثلاث لكنه سرعان ما أوقفها بسبب الشكوك التي كانت تجعله يتصور أن كل من يقول له رأيا يوجهه أو يهدف إلي مصلحة معينة!. وقد تولي الباز ملف القضية الفلسطينية وحضور جميع الاجتماعات التي تتناول هذه القضية ومصاحبة جميع القيادات الفلسطينية, وإجراء الاتصالات الخاصة التي يكلفه بها الرئيس, وكل ذلك في هدوء ودون أي ظهور في الأضواء.. وفي كل مرة كان ياسر عرفات يصل فيها إلي القاهرة كان الباز يحرص علي أن يضع في برنامجه أكلة كباب علي النيل مع رؤساء التحرير لتوثيق علاقات أبو عمار بالصحافة المصرية, وأيضا لمعرفة آخر مستجدات الصراع الذي يبدو لا نهاية له. وقد ظل الباز منفردا بالملف الفلسطيني إلي أن دخل عليه وافد جديد هو الوزير عمر سليمان رئيس المخابرات العامة الذي إلي جانب قدراته المعروفة علي العمل فقد كان ينافس أسامة الباز في عدم الظهور والعمل بعيدا عن الأضواء, وبعد أن كان الاثنان أسامة وعمر سليمان يتوليان الملف, بدأ اسم الباز يشحب حتي جاء وقت أصبح فيه الملف في عهدة أحمد أبوالغيط وزير الخارجية السابق, وعمر سليمان, ولا ذكر لأسامة الباز. وفي الدول الأجنبية, فإن الناشرين يتهافتون علي رجل بحجم أسامة الباز عاصر وشارك وصنع أحداثا مهمة ليكتب مذكراته وذكرياته عن الأحداث التي عاصرها, وأنا أعرف أن أسامة الباز تعرض لإغراءات مادية كبيرة لتحقيق ذلك, ولكن مشكلة الباز أن الفلوس آخر شئ يفكر فيه, وهو يعتبر أن كل ما عرفه قد جاءه بحكم وظيفته ويجب أن يبقي سرا لا يبوح به.. المزيد من أعمدة صلاح منتصر