طوال السنوات الماضية لم يتوقف الحديث عن ضربة عسكرية علي إيران ومنشآتها النووية, وفي كل مرة كانت الصعوبات اللوجستية وعدم وجود دعم دولي لهذه الفكرة المجنونة فضلا عن امكانات الرد التي تمتلكها إيران. واقتراحات للعودة إلي المفاوضات لحل المشكلة سلميا, تشكل دافعا لتوقف الحديث عن الحرب لفترة من الزمن, ثم بعد ذلك يعود الأمر ليكرر نفسه ثانية. وفي هذه الآونة يبدو الأمر من الناحية الظاهرية وكأنه يعيد تكرار المشهد السابق نفسه, فهناك تحركات ذات طابع عسكري من بينها نشر أنظمة دفاع صاروخي في منطقة الخليج, ولقاءات بين عسكريين امريكيين ومسئولين كبار في المنطقة العربية وإسرائيل, وزيارة لرئيس الوزراء الإسرائيلي نيتانياهو إلي موسكو, وملفها الرئيسي هو برنامج إيران النووي, فضلا عن تدريبات إسرائيلية ذات طابع خاص توحي بالاستعداد لمواجهة عسكرية مرتقبة ربما علي أكثر من جبهة. لكن الأمر لايقف عند هذا الحد, فهناك ايضا تحركات ومواقف تصب في أن الاولوية ليست لمواجهة عسكرية, بل لفرض عقوبات قاسية علي إيران تؤدي إلي زيادة عزلتها الخارجية, وتؤجج مشكلاتها الداخلية وتساعد علي خلخلة النظام فيها, هكذا قالت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية في منتدي أمريكا والعالم الإسلامي الذي عقد قبل يومين في الدوحة, وهكذا ايضا تحدث مايكل مولن رئيس هيئة الاركان الأمريكية قبل زيارته لكل من مصر وإسرائيل, حيث نفي وجود خطط عسكرية لضرب إيران التي وصفها بأنها تثير القلاقل في المنطقة, واعتبر محاولة انتاجها سلاحا نوويا مسألة في غاية الحساسية لأنها ستثير مخاوف دول الاقليم وتدفع إلي سباق تسلح. وفي السياق ذاته نلاحظ المواقف الأوروبية لاسيما من فرنسا وألمانيا تدعم جميعها فكرة فرض عقوبات قاسية وشاملة علي إيران, لانها لم تتجاوب مع اقتراب الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتبادل اليورانيوم المخصب, وقامت برفع تخصيب اليورانيوم لديها من3,5% إلي20% كما اعلن ذلك الرئيس احمدي نجاد. إيران من جانبها التي رفعت معدلات تخصيب اليورانيوم لم تنس ان تعيد التذكير بموافقتها علي مبدأ تبادل اليورانيوم المخصب, وان المشكلة هي في التوصل إلي ترتيبات مناسبة يوافق عليها الجميع, أو بمعني آخر تأكيد ان إيران مازالت متمسكة بالمفاوضات والحلول السلمية, وان كان قادتها العسكريون لايتأخرون في التأكيد علي منعة بلادهم العسكرية, وقدرتهم علي رد أي عدوان محتمل. هذه التشكيلة من المواقف تتداخل فيها ثلاثة انواع من الاحتمالات, الأول احتمالات الحرب وان كانت ضعيفة في الوقت الراهن أو مؤجلة إلي حين, والثاني احتمالات فرض عقوبات التي تواجه بدورها رفضا صريحا من الصين ومبطنا من قبل روسيا, والثالث احتمالات العودة إلي مائدة المفاوضات لانهاء العقبات العملية لتطبيق مبدأ تبادل اليورانيوم الايراني المخصب, ولعل هذا التداخل هو الذي يجعل الأمور تبدو معقدة, سواء في جانبها الكلي أو في جانبها المتعلق بكل احتمال علي حدة. ان تأمل السيرورة التي ادت إلي هذا التداخل بين احتمالات ثلاثة كل منها يواجه تحديات كبري قد يساعد علي تلمس الطريق الذي قد تسير فيه الازمة النووية الايرانية في المدي الزمني المنظور, فخيار المفاوضات الذي طرحته ادارة الرئيس أوباما منذ مطلع العام الماضي كان في جوهره مجرد اسلوب سياسي, يستهدف ليس حل المشكلة النووية الايرانية وحسب, بل ايضا جذب إيران ناحية المصالح الأمريكية والغربية, علي ان يصاحب ذلك تغيير تطوعي من النظام الايراني لقبول المباديء التي يرتضيها الغرب بشأن العديد من الملفات الإقليمية والدولية الأخري, مثل الصراع العربي الإسرائيلي والوضع العراقي والحالة الأفغانية والموقف من إسرائيل, والترتيبات الأمنية في منطقة الخليج, وايضا مسائل أخري تتعلق بعمل النظام الايراني نفسه, لاسيما ما يتعلق بالحريات وحقوق الانسان واشاعة روح الانفتاح داخليا وخارجيا فيه, وهو مااعتبرته إيران ثمنا باهظا جدا, ويتجاوز المشكلة النووية ويتصادم مع رؤيتها الكلية بشأن النظام الإسلامي الحاكم, ودوره الاقليمي بل والعالمي ايضا. لم تكن استراتيجية المفاوضات بهذا المعني الشامل جاذبة لايران التي أرادت فقط ان تمارس المفاوضات من أجل استهلاك الزمن من جانب, وتأجيل القرارات الكبري من جانب اخر, وفي الوقت نفسه الاستمرار في برنامجها النووي والتسليحي بمعدلات معقولة تحسبا لاي لحظة حرجة محتملة. كان فشل استراتيجية المفاوضات مسألة محتملة اكبر من نجاحها, وهو ما أكدته إدارة أوباما مؤخرا, وهو الفشل الذي بدا كمدخل لعودة الحديث عن البدائل الاخري, وهنا نلاحظ ان التركيز الأمريكي هو علي العقوبات الشاملة والقاسية والتي يصدر بها قرار من مجلس الأمن الدولي ويلتزم بها العالم كله, وبحيث تحدث آثار كلية وصادمة علي إيران حكومة وشعبا. وعلينا ان نلاحظ هنا ان منهج العقوبات الأمريكي ضد إيران ليس جديدا, فهناك عقوبات بالفعل تطبقها الولاياتالمتحدة علي إيران منذ ثلاثين عاما, ولكنها عقوبات ذات طابع فردي, وهناك عقوبات محدودة ذات طابع جماعي تطبقها الولاياتالمتحدة مع عدد من البلدان الأوروبية وروسيا والصين, ولكنها مصممة بطريقة لاتؤذي مصالح كل من الصين وروسيا خاصة في مجالي الطاقة والامدادات البترولية ومبيعات الاسلحة التي توصف بأنها دفاعية. ما تريده الولاياتالمتحدة الآن وبعض الدول الأوروبية يتجاوز هذه المنظومة العقابية محدودة التأثير, ومن هنا تأتي الشكوك حول قبول الصين لهذه المنظومة العقابية المقترحة, كما أن محاولة جذب روسيا ناحية الموقف الأمريكي والأوروبي تواجه أيضا بعض التحديات. فكلا الموقفين الصيني والروسي ينطلقان من ان الجهود الدبلوماسية لم تستنفد بعد, وهي حجة لاتخفي اولوية المصالح الوطنية الصينية والروسية علي الرؤية الأمريكية الأوروبية بشأن إيران, فعقود النفط والغاز والأسلحة ومبيعات السلع الاستهلاكية من هذين البلدين إلي إيران ليست امرا يمكن التضحية به بسهولة من أجل ارضاء واشنطن أو باريس أو برلين, ورغم التلميحات التي اشارت إليها وزيرة الخارجية الأمريكية بشأن الضغط علي الصين حتي تلتزم منهج العقوبات الشاملة, فالأمر المرجح ان يأخذ وقتا طويلا من الجدل والضغوط المتبادلة, وبما سيؤثر علي منظومة العقوبات المحتملة والتي ستكون في ذلك الوقت أقل بكثير مما تطمح إليه واشنطن وباريس ولندن. ومما يحد من احتمال أن تقبل الصين منظومة العقوبات الشاملة, وهو ما يثار بكثافة الآن أمريكيا وأوروبيا حول أن الهدف النهائي لهذه العقوبات هو تغيير النظام, وهي اشارة تعيد التذكير بالطريقة التي تم التعامل بها مع العراق منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي, والتي انتهت بعد13 عاما بغزو واحتلال وإعادة تمركز القوات الأمريكية في المنطقة بشكل اثر جوهريا علي منظومة الأمن الاقليمي وعلي مصالح العديد من القوي الدولية في المنطقة. ولما كان الوضع الايراني أكثر تعقيدا مما كان عليه الوضع العراقي زمن الرئيس السابق صدام حسين, فان اثارة مسألة تغيير النظم عبر العقوبات الشاملة من شأنها ان تزيد المخاوف والقلق الاقليمي لا ان تخفضها. وفي الوقت الذي ترنو إليه الولاياتالمتحدة ودول أوروبية إلي تغيير النظام الايراني, فان كثيرا من دول العالم بما فيها دول المنطقة العربية ترفض هذا النهج, لما ينطوي عليه من مخاطر علي أمن الاقليم ككل, فحجم الشعبية والتأييد للعقوبات ضد إيران في العالم العربي يصل إلي الصفر تقريبا, وهو ما يمثل قيدا آخر علي هذه الطريقة التي يتعامل بها الغرب مع قضايا المنطقة الساخنة. وفقا لما سبق فان العقوبات الشاملة تبدو مؤجلة إلي حين تتضح فيه المعادلات الجديدة في المنطقة, وفي الوقت نفسه, فإن خيار الحرب الذي تجاهد تل أبيب من أجله يبدو ايضا متعثرا لأسباب كثيرة, أولها أولوية فرض العقوبات في التحركات الأمريكية والأوروبية, وثانيا لأن توجيه اي ضربة عسكرية لايران, ولكي تكون ناجحة وتؤدي إلي اجهاضه تماما يتطلب عملا حربيا أكبر من قدرات إسرائيل, ويكفي ان نعرف ان المنشآت النووية الايرانية تتجاوز170 منشأة موزعة علي الخريطة الايرانية بكاملها, وثالثا لان هناك في داخل إسرائيل من القادة العسكريين الذين يدركون ان قيامهم بدور حامل لواء الحرب من شأنه أن يكلفهم الكثير الذي لايتحملونه, ورابعا لان إيران يمكنها ان تجعل ثمن اي حرب باهظا علي العالم كله في وقت لم تنته فيه ازمة اقتصادية عاتية لم يسلم منها احد, والمحصلة ان جمودا سياسيا واستراتيجيا سيستمر بعض الوقت.