من المسئول عن هذا المستوي المزري الذي وصلت إليه الثقافة في مجتمعنا؟ وحين أتحدث عن الثقافة فأنا لا أقصد الآداب والفنون وانما أقصد الثقافة المعرفية بشكل عام, والتي تجعل المواطن العادي حين يوجه إليه سؤال في التليفزيون الفرنسي أو البريطاني أو الألماني عن أينشتاين لا يجيب بأنه ممثل سينمائي, أو أن تولستوي زعيم سوفيتي راحل, هل هي وزارة الثقافة أم وزارة التربية والتعليم؟ أم أنه المناخ العام الذي أصبح طاردا للثقافة؟ لاشك أن المدرسة عليها مسئولية كبيرة في تأسيس القاعدة الثقافية الأولي للطالب, وما نطالعه في المناهج الدراسية الحالية لا يمت بصلة للمعرفة بالمعني المقصود, فكيف للطالب أن يبني قاعدة معلوماتية سليمة تمكنه بعد ذلك من الاستزادة العلمية والتطور المعرفي؟ في الحقيقة أن الطالب لا يتلقي علمه ولا تتفتح مداركه من خلال الكتاب المدرسي وحده, وانما عبر المناخ العام المحيط به, وعلي وجه الخصوص من خلال الاعلام أو التليفزيون اذا شئنا الدقة, باعتباره أكثر وسائل الاعلام تأثيرا في المجتمع, فماذا يقدم لنا التليفزيون من ثقافة؟ إن الحكم علي المحتوي الثقافي للبرامج التليفزيونية لا يكون من خلال ما يسمي بالبرامج الثقافية المتخصصة وانما بالمضمون الثقافي في الإرسال التليفزيوني بشكل عام, إن متابعة مختلف البرامج التي يبثها جهاز التليفزيون الرسمي التابع للدولة تظهر عزوفا واضحا عن الثقافة والعلوم والمعرفة بكل أنواعها, بينما نلاحظ في برامج التليفزيونات الأوروبية اهتماما واضحا بالمضمون المعرفي, سواء في البرامج الحوارية أو برامج الأطفال أو غيرها, ناهيك عن البرامج المخصصة للثقافة من آداب وفنون وعلوم وفكر. ولنأخذ علي سبيل المثال قناة الBBC البريطانية ولنضرب مثالا ببرنامجين ترفيهيين أحدهما مخصص للتحف القديمة واسمهAntiqueRoadShow, والثاني مخصص لوصفات الطعام, وقد أفردت له الBBC منذ بضع سنوات قناة بالكامل. يعتمد البرنامج الأول علي القيام بزيارات لمختلف أنحاء الجزر البريطانية والتمركز في احدي المتنزهات العامة, أو بالقرب من أحد معالم المدينة من قصور قديمة أو جبال جميلة..إلخ, ويأتي المواطنون الي ذلك الموقع ليعرضوا ما قد يكون لديهم من أشياء قديمة يريدون تقويمها أو معرفة تاريخها, فيقوم فريق البرنامج المكون من الخبراء في هذا المجال بتحديد هوية الشيء المراد تقويمه والذي قد يكون ساعة حائط قديمة أو قبعة أو منضدة أو آلة موسيقية أو كتابا, وتحديد تاريخه وجنسيته, ويربط البرنامج بشكل طبيعي وبطريقة مثيرة بين الشيء الذي يمسك به الخبير بين يديه وبين تاريخ المنطقة التي جاء منها, وعادة ما تكون هناك علاقة بين استخدام هذا الشيء أو انتشاره وبين تاريخ المنطقة التي جاء منها, وهكذا فإلي جانب عنصر التسلية الناتج عن مشاهدة الأشياء النادرة ذات التاريخ, والي جانب المفاجأة التي قد ترتسم علي وجه أصحابها حين يكتشفون أنها تساوي أضعاف ما كانوا يتصورون أو ما دفعوه فيها منذ سنوات اذا كانوا قد اشتروها ولم يرثوها, أو الناتج عن كونها قد لا تساوي ما دفع فيها لأنها غير أصلية أو لأنها أصلية لكنها ليست نادرة, فمازال الكثير منها متاحا في الأسواق.. أقول الي جانب عنصر التسلية والتشويق هناك المعرفة التي يكتسبها المتفرج من هذا البرنامج من المعلومات التي يحصل عليها عن المنطقة التي يذاع منها البرنامج, والتي تتغير من حلقة الي أخري, وهي معلومات قيمة لا تأتي في شكل محاضرة وانما من خلال شرح الخبير للتحفة التي بين يديه وتاريخها واستخداماتها وقيمتها. إنه برنامج يزيد من معرفة المتفرج ببلاده وتاريخها, ويأخذه في رحلة الي مواقع قد لا يزورها في الأحوال العادية, أما اذا كان ما يتم عرضه هو منتج أجنبي, فرنسي مثلا أو إيطالي أو إسباني فهنا تكون المعلومات الجديدة عن تلك الدولة وعن علاقتها ببريطانيا والتي جعلت مثل هذا الشيء يوجد لدي البريطانيين, مما يشير الي علاقة بريطانيا بهذه الدول في التاريخ الذي صنعت فيه التحفة المذكورة. أما القناة المخصصة لوصفات الطعام واسمهاBBCFood فهي من أكثر قنوات الBBC نجاحا وتفوقا في عدد مشاهديها وفي الدخل الذي تحققه للBBC بالمقارنة للقنوات البريطانية الأخري, وهي تعتمد مثل البرنامج المذكور عاليه علي الترحال من مكان الي آخر سواء داخل بريطانيا أو خارجها, وقد تقدم علي سبيل المثال وصفة شهيرة لطهي سمك التونة من سكوتلاندة أو من ويلز, وهنا قد يقدم البرنامج حلقته من علي شاطيء البحر في تلك المنطقة ويحكي كيف كان يتم صيد ذلك النوع من الأسماك علي مدي التاريخ, وما قد يكون هناك من ارتباط بينه وبين تاريخ المنطقة, كل ذلك وهو يقدم وصفة الطعام الي أن نراها أمامنا وقد اكتملت الصنع. هذا عن البرامج التي لا يفترض أنها برامج ثقافية, والتي لا يتم ادراجها تحت الإدارة الثقافية للقناة, فما بالك بالبرامج المخصصة للثقافة والتي تعتمد علي تقديم جرعة ثقافية صريحة للمتفرج, إن من أمتع البرامج في هذا النوع ما اشتهرت به قناةTV5 الفرنسية وهو البرنامج الذي كان يقدمه المذيع الشهير برنار بيفو حتي وقت قريب باسمBouillondeculture وكان مخصصا لتقديم أحدث الكتب, ليس من خلال تلخيص ما يدور حوله الكتاب وانما من خلال استضافة أكثر من مؤلف صدر له كتاب حول نفس الموضوع, أو في موضوع قريب منه أو معارض له, وهكذا يدور النقاش حول هذه الموضوعات من خلال الكتب المعروضة, فتتحول الحلقة الي ندوة ثرية يتحدث كل مشارك فيها حول موضوع ألف فيه كتابا مما يرتفع بمستوي الحوار الي أعلي درجة, بينما كثيرا ما نري عندنا من يتحدثون في موضوعات لا يعلمون عنها شيئا. وبالمقارنة لكل ذلك نجد مستوي المضمون المعرفي والثقافي في برامج التليفزيون عندنا متدنيا الي أقصي درجة حتي قد تبدو بعض البرامج وكأنها تخاطب مجتمعا من المتخلفين عقليا, أما البرامج المخصصة لتقديم الثقافة الصريحة فهي كثيرا ما تستخدم كمادة احتياطية يتم إلغاؤها اذا كانت هناك مباراة في كرة القدم, أو توضع في أوقات غريبة قرابة الفجر, أي في الساعات التي لا يكون فيها متيقظون إلا العائدون من والنوادي الليلية والذين لديهم بلا شك ما يهتمون به أكثر من الشعر والباليه والفن التشكيلي. أما البرامج التي تعتمد علي اختبار المعلومات فهي فصيحة بكل المقاييس, ليس فقط من حيث مستوي المشاركين فيها من الجمهور وانما أيضا من حيث القائمين علي البرامج أنفسهم, وقد وجدنا أخيرا شابا يربح جائزة أجد هذه البرامج حين أجاب عن سؤال حول عاصمة تركيا فقال إنها اسطمبول فقالت له المذيعة: صح(!!). أما الصحافة فهي ليست أفضل حالا من التليفزيون, ومثلما هناك في التليفزيون بعض البرامج الثقافية النادرة التي تضيف لمعلومات المشاهد, فهناك أيضا بعض الصفحات القليلة جدا في صحفنا التي تعني بالثقافة وترتفع بالمستوي المعرفي للقاريء, لكن الغالبية العظمي من الصحف لا تكترث كثيرا للثقافة ولا تحرص علي الارتفاع بمستوي المعارف العامة علي الأقل ليس بنفس قدر اهتمامها بالعناوين المثيرة التي يتصورون أنها تزيد من توزيع الجريدة بينما تثبت أرقام التوزيع أن صحف الإثارة هبط توزيعها بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة, مما يؤكد أن القاريء أصبح يتطلع الي المعلومات السليمة والي ما يزيد من ثقافته ويوسع من معارفه, فمتي نبدأ الاهتمام بهذا القاريء؟.