جمعت ثورة الخامس والعشرين حولها جموع المصريين بكافة أطيافهم وانتماءاتهم الدينية والسياسية، وشهد ميدان التحرير كما شهد غيره من ميادين مصر على امتدادها خليطا من التيارات والتوجهات والتي وإن كانت مختلفة الرؤى والمشارب إلا أنها توحدت خلف مطالب مشروعة نادى بها الجميع، فلم تكن تلحظ تباينا بين الشباب أو الإخوان أو السلفيين أو الناصريين أو غيرهم، ولم يكن هناك من فرق بين المسلم والمسيحي، فهذا يصلى ويحميه ذاك، وهذا يترنم في قداسه ويظله هذا، وتكرر المشهد كثيرا طوال أيام الثورة. وتحقق أول تلك المطالب وأكثرها إلحاحا بتنحي الرئيس السابق عن منصبه، وهو ما كان إيذانا بسقوط نظام فاسد بأكمله، ومع الإعلان عن موعد لإجراء الاستفتاء حول التعديلات الدستورية في بعض المواد بدأ التشرذم والفرقة، وعاد الاختلاف من جديد ليطفو على السطح ويطغى على الأحداث بدلا من الاستمرار من أجل إعادة بناء الدولة المصرية، فبعض التيارات وعلى رأسهم الإخوان والسلفيون رأى في الموافقة على التعديلات الدستورية ما ينشده الوطن من استقرار وأمان فُقد في الأيام الأولى للثورة، والبعض الآخر وفي المقدمة منهم العلمانيون والكنيسة رأوا رفض التعديلات وضرورة صياغة دستور جديد للبلاد، وتجلى تخوف الكنيسة في أن ظهور الإخوان والسلفيين على الساحة السياسية بتلك الصورة غير المسبوقة هو إعلان لإقامة دولة دينية إسلامية ترفض الآخر المسيحي ، وهو تصور خاطئ، لأن المسيحيين المصريين ما عاشوا عصور عزهم وفخارهم إلا في ظل الإسلام ودولته، وخلال أيام الثورة الأولى حين تفشت البلطجة وانعدم الأمن لم يجرؤ أحد أن يعتدي على مواطن واحد على خلفيته المسيحية، ولم تسجل حالة اعتداء واحدة على إحدى الكنائس، وإنما حماها المسلمون بجانب المسيحيين وهذا بشهادات المسيحيين أنفسهم، وقد يقول قائل وماذا عن هدم كنيسة صول وأحداث الفتنة في مصر القديمة، فمردود عليه بأن ما حدث كان بفعل فلول النظام السابق التي خرجت عن عقلها لأنها لم تتصور أن يأتي اليوم الذي يزول فيه فسادهم وتدول دولتهم، فأرادوا إدخال البلاد في دوامة من العنف الطائفي لينجوا بصنيعهم، ولكن الله أراد لهم الخزي. ما سبق جعل الكثيرين بمن فيهم الكنيسة يتحدثون عن الدولة المدنية، تلك الدولة التي تعلي شأن القانون وأن الجميع أمامه متساوون في الحقوق والواجبات، وارتضى الكثير من المسلمين بمدنية الدولة ما دامت ذات مرجعية إسلامية، ولكن الكنيسة ناقضت نفسها عندما وُضعت على المحك في اختبار سيادة دولة القانون، وظنت أنها فوق القانون وذلك عندما رفضت استدعاء النيابة العامة لكاميليا شحاتة لسماع أقوالها فيما هو منسوب إليها من أنها قد أعلنت إسلامها، وأنها محتجزة من قبل الكنيسة لهذا السبب، وذلك طبقا للبلاغات المقدمة من بعض المسلمين الذين يريدون تطبيق القانون الذي يكفل حرية المعتقد وحق الإنسان في أن يختار الدين الذي يراه مناسبا لمعتقداته، وتقول الكنيسة إنها ليس لها علاقة بالقضية، وإنها ليس لها سلطة روحية على كاميليا، وإنها تعيش في بيتها مع زوجها، فكيف ذلك والسلطة الدينية بالأساس هي سلطة روحية، وبما أن الكنيسة أعلى سلطة دينية، فبالتالي هي أعلى سلطة روحية، وإذا لم يكن للكنيسة علاقة بالقضية فلماذا يتولى قضية كاميليا وحاصل على توكيل منها مستشار الكنيسة للشئون القانونية، حيث من الأولى لها أن توكل أحد المحامين الموجودين في مدينتها لا أن تأتي إلى الكنيسة لتفوض محاميها، وإن كانت على مسيحيتها - وهذا حقها - فهي ليست متهمة ولا تحتاج لمحام وإنما تذهب إلى النيابة وتعلن ذلك وتغلق القضية من أساسها، وإن كانت تعيش في بيتها مع زوجها لكانت النيابة قد استطاعت الوصول إليها وعلمت منها الحقيقة وانتهى الأمر أيضا. إن الواجب الوطني على الكنيسة في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد يحتم عليها أن تسكب ماء باردا على تلك الفتنة لوأدها من الأساس، وذلك بتسليم كاميليا للنيابة العامة ممثلة السلطة القضائية في دولة القانون ويترك لها مطلق الحرية للاختيار، فيكون الانتصار لسلطة القانون وحرية الإنسان لا للمسلمين ولا للمسيحيين، لأنه لن يضر الإسلام أو المسيحية ولن ينقص من شأنهما كديانتين سماويتين انتماء مليون كاميليا إليهما أو عدم انتمائهم. وأخيرا فإنه يجب إعمال صوت العقل وإعلاء مصلحة البلاد عن مثل تلك القضايا لأنها في حقيقة الأمر قضايا مفتعلة تحل في إطار دولة القانون التي ارتضيناها بعيدا عن المعالجة الدينية. [email protected] المزيد من مقالات حسام كمال الدين