كان من حسن حظي أن التقي مع الصديق والأستاذ الدكتور يحيي الجمل نائب رئيس مجلس الوزراء مرتين في الاسبوع الماضي,لقاء غير مباشر عبر الاعلام بعد أن انقطعت لقاءاتنا علي مدي الاشهر الثلاثة الماضية التي كانت مفعمة بالاحداث والتطورات, وأبرزها بالطبع ثورة52 يناير. اللقاء الأول كان عبر مقال صحفي نشره يوم الاثنين(12 مارس الجاري) تحت عنوان يحمل قدرا لا بأس به من الدهشة هو كل هذا الفساد!! أما اللقاء الثاني فكان تليفزيونيا تحدث فيه عن كثير من الهموم وابرزها ملف الصحافة المصرية, وللأمانة لا استطيع أن أنكر مدي الصدمة التي شعرت بها من قراءة ومتابعة الدكتور يحيي الجمل وكأني أعرفه للمرة الأولي مما دعاني الي أن أسأل: هل هو بريق السلطة؟ أو هي حسابات وتوازنات اجهلها ولكن عندما يتعلق الأمر بمصير وطن ومستقبل ثورة فقد رأيت أن الواجب يفرض علينا أن نتجاوز انطباعاتنا وان نتحاور بمسئولية وأمانة اعتدنا عليها طيلة السنوات الماضية, خاصة تجربتين مهمتين كان لي شرف مشاركة الدكتور الجمل في تحمل قدر من مسئولياتهما الأولي تجربة الجبهة الوطنية للتغيير برئاسة الدكتور عزيز صدقي رئيس وزراء مصر الاسبق عليه رحمة الله وكان ذلك عام5002 والثانية تجربة تأسيس جماعة العمل الوطني في العام الماضي وهي الجماعة التي شكلت القوة الرئيسية في تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير. في هاتين التجربتين كان الجميع علي وعي بأن التغيير والتغيير الجذري للنظام السابق اضحي ضرورة, بل حتمية وطنية, وكان هذا الوعي نابعا من ادراك الجميع لحجم وخطورة ما تعيشه مصر في ظل ذلك النظام من استبداد وقهر وفساد وتضليل ولعل هذا ما جعلنا نضع عنوانا للبيان, التأسيسي ل جماعة العمل الوطني التي أخذنا الصديق العزيز الاستاذ حمدي قنديل منسقا عاما لها هو: لم يعد الصمت ممكنا كان هذا العنوان بليغا الي درجة كبيرة من تأكيد ادراكنا لحتمية الثورة علي ذلك النظام, لذلك كانت دهشتي عند قراءة مقال الدكتور يحيي الجمل المشار اليه بعنوان كل هذا الفساد!! ليس بسبب ما تضمنه من اشارات لجرائم فادحة ارتكبت بحق مصر وشعبها, رغم ان تلك الاشارات تتضمن اقل من1% من حقيقة تلك الجرائم, ولكن دهشتي كانت بسبب أمرين أولهما, أن الدكتور الجمل وهو نائب لرئيس الوزراء في الحكومتين اللتين اعقبتا سقوط نظام مبارك( حكومة احمد شفيق, وحكومة عصام شرف) لم يتملك حتي الآن رؤية متكاملة ومؤسسية لاستئصال هذه الجرائم, ولم يطرح بصفته الحكومية مشروعا نعرف منه ان الحكومة الحالية بالذات عازمة فعلا علي استئصال جذور مؤسسات الاستبداد والفساد والتضليل, رغم علمه وعلم الحكومة ان الثورة التي فجرها الشعب المصري من اجل العدالة والحرية والسيادة الوطنية لم تشأ أن تصل إلي السلطة, وأنها أودعت الأمانة كاملة باعناق المجلس الأعلي للقوات المسلحة وحكومة الدكتور عصام شرف. أما السبب الثاني لدهشتي فهو تلك الرؤية التي حرص الدكتور الجمل علي تمريرها عبر ذلك المقال لمعالجة الفساد في مصر. فقد أسهب في الحديث عن تجربة جنوب افريقيا بعد سقوط نظام الحكم العنصري وبالذات ما أشار اليه من الحاجة الي التفاهم وليس الي الانتقام والحاجة الي الاصلاح وليس الرد بالمثل, والحاجة الي النزعة الانسانية وليس التثميل بالغير وشاء الدكتور الجمل ان ينهي مقاله بعبارة شديدة الدلالة علي منحي اعتبره شديد الخطورة في هذا الوقت بالذات بالنسبة للثورة المصرية, وهي عبارة نقلها عن ديباجة القانون رقم1111 لسنة5991 بدولة جنوب افريقيا تقول وبما ان الدستور يذكر انه من اجل تعزيز مثل هذه المصالحة واعادة البناء فان العفو سيمنح فيما يخص افعالا واغفالات واساءات مرتبطة باهداف سياسية تم ارتكابها في سياق صراعات الماضي ولقناعتي الشديدة بما تتضمنه هذه الفقرة التي نقلها بنصها في ختام مقاله شاء ان يضيف ما نصه واعتقد اننا في مصر نحتاج الي مثل هذا القانون الذي قد يكون من ورائه خير كثير خاصة فيما يتعلق باسترداد الملايين الطائلة المنهوبة. أي تفاهم وأي اصلاح وأي نزعة انسانية تتحدث عنها يا دكتور وانت مندهش من كل هذا الفساد ومع من؟ مع عصابة مازالت تمارس جرائمها حتي الآن ومازالت رؤوسها تتآمر علي مصر وثورتها وهي حرة طليقة لم تمس, وبالذات رأس النظام واسرته وعصابة الأربعة التي أفسدت مصر سياسيا وماليا وكانوا علي رأس اهم مؤسسات الحكم والسلطة في مصر, وكانت أدوات الرئيس في ممارسة الاستبداد والفساد والقهر والتضليل والتزوير وفتحت آفاق نهب مصر وتدمير مكانتها والتعاون مع ألد اعدائها. أي تفاهم وأي اصلاح وأي نزعة انسانية والثورة جري تغييبها تماما عن القرار السياسي, في حين أن الثورة المضادة تنشط والحزب الحاكم السابق يسعي الي تجديد نشاطه ويقاضي من يعتبرهم اعتدوا علي مقاره, ويسعي لاسترداد هذه المقار التي اغتصبها من الاتحاد الاشتراكي السابق والادهي ان هناك من محامي ذلك النظام السابق من قام برفع دعوي قضائية تطالب بعدم شرعية تنحي مبارك عن الحكم وعدم شرعية تولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة السلطة من بعده, كما تطالب تلك الدعوي بضرورة الحكم بعودة الرئيس المخلوع الي الحكم حتي نهاية ما تراه فترة حكمه الدستورية. مضمون مقال الدكتور الجمل هو دعوة للالتزام بالنهج الاصلاحي كبديل للنهج الثوري واستكمال الثورة مشوارها الذي لم يكتمل بعد, وهي دعوة تتوافق مع دعوات مماثلة يطرحها كتاب ومفكرو النظام السابق الذي مازال بعضهم علي رأس مؤسسات صحفية واعلامية حكومية( اي ملك للشعب المصري الذي فجر الثورة وطالب بالتغيير) وهي دعوة اخذت تحذر من مغبة استمرار الفعل الثوري والفكر الثوري متذرعة بخطورة هذا النهج علي الدولة والاستثمار والتنمية علي النحو ذاته الذي كانت تطالب به لتتخلي مصر عن مسئولياتها القومية والانخراط في ركب التطبيع مع العدو الصهيوني والخضوع للهيمنة الامريكية ضمن مشروع التبعية الذي تنادي به تحت وهم التفرغ للتنمية وبناء مصر داخليا, في حين أن ما كان يحدث كان نهبا وتدميرا للتنمية ولمستقبل التقدم في مصر علي يد النظام الذي ظل هؤلاء يخدمونه ويحصلون منه علي المقابل شديد الاغراء من الثروة والجاه. مقالك يا دكتور شديد الخطورة ولا ينافسه في خطورته إلا تلك الاخطار الفادحة التي تتهدد الثورة منذ جري احتواؤها في متاهة الاستفتاء علي التعديلات الدستورية ب نعم وغواية شباب الثورة ببريق الاعلام ومستنقع تأسيس الاحزاب الجديدة, والانصراف عن مهمة الجهاد الأكبر, أي استكمال مشوار الثورة وتحويل أهداف العدالة والحرية والسيادة الوطنية الي دستور والي مؤسسات حكم. إننا في حاجة ملحة الآن الي تأسيس جماعات وطنية تشارك في الحوار وفي صياغة دستور مصر الجديد وفقا لاهداف ومبادئ الثورة, وفي حاجة الي مؤسسة وطنية من كل الاجهزة الرقابية في مصر للقيام بمهمتين الأولي هي حصر كل جرائم الفساد وتحويل الفاسدين الي المحكمة, والحصول علي اموال مصر المنهوبة دون محاباة لأي شخص وليكن التركيز علي الرئيس وأسرته وعصابة الاربعة التي يعرفها جميع المصريين. والثانية هي البحث في كيفية استئصال كل عوامل تفريخ الاستبداد والفساد والتضليل وبعد ان نضع الدستور الذي أرادته الثورة والشروع في بناء مؤسساته وبعد أن نؤمن مصر من الاستبداد والفساد ونحاكم الفاسدين ونسترد الأموال المنهوبة نبدأ في الحديث عن السماح والعفو, فالعفو لا يكون إلا عند المقدرة والثورة لم تملك بعد هذه المقدرة ولا تقدر عليها, الا بعد أن يصبح الحكم هو حكم الثورة والدولة هي دولة الثورة بعد كل هذا الفساد الذي عشناه في مصر. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس