العلاقة بين غلق أبواب الاصلاح وفتح الطريق للثورة ليست آلية أو ميكانيكية, ربما تكون علاقة منطقية, بل هي كذلك فعلا فعندما يستحيل الاصلاح في اطار نظام سياسي فاسد سياسيا واجتماعيا, تصبح الثورة هي الحل, ولكن هذا الحل يظل أملا من الآمال, وليست الآمال كلها ممكنة. ولذلك لم يتوقع احد في يوم24 يناير2011, ان يكون اليوم التالي, الذي دعت حركات شبابية عدة للتظاهر فيه, بداية ثورة شعبية تحقق في18 يوما ماعجز الاصلاحيون عن انجاز يسير منه عبر سنوات طويلة. لم تكن الثورة متوقعة, بالرغم من فشل جهود مضنية بذلت من أجل إصلاح بات مستحيلا في الأعوام الثلاثة التي سبقتها, فقد أكدت التعديلات الدستورية التي تم اقرارها عام2007 ان باب الاصلاح قد اغلق نهائيا, وأن الأمل الصغير للغاية الذي لاح من بعيد عام2005 غدا سرابا. ومع ذلك, لم يكن أكثر المتفائلين بمظاهرات25 يناير يتوقع ان تكون بداية ثورة يقل مثلها, وينطبق ذلك علي اصحاب الميل الاصلاحي وذوي المزاج الثوري, أو الاصلاحيين والثوريين, في آن واحد, فالاحباط المتراكم غمر ثلاثة أجيال علي الأقل, منذ الجيل الذي كان في الجامعات في اواخر ستينيات القرن الماضي, وفجر أول انتفاضة شعبية عام.1968 ومع ذلك, فعندما فجر شباب25 يناير الثورة, كان الثوريون أبعد نظرا عندما رأوا ان الثورة لن تنجح إلا إذا اقصت مبارك عن الحكم لان بقاءه يهدد بالتراجع عن أي تغيير قد يقبله, فالرئيس السابق الذي رفض بشكل متكرر اصلاحات صغيرة قد يقبل تغييرا أكبر تحت ضغط ثورة شعبية, ولكنه قد يعود عنه حين تنحسر هذه الثورة, لم يقدر الاصلاحيون الذين وقفوا مع الثورة الموقف حق قدره حين اعتقدوا ان إجراء مثل نقل سلطة رئيس الجمهورية إلي نائبه يمكن ان يكون بداية نهاية النظام, بالرغم من أنه طرح في وقت يعتبر مبكرا في بداية اسبوع الثورة الثاني. ووجدوا في تلك الصيغة حلا بدا معقولا في حينه علي ان تتواصل الثورة بمقدار ماتتوافر لها من طاقات إلي ان تحقق هدفها النهائي, هو اقامة نظام ديمقراطي حر عادل, ولذلك لم يوفق من ربطوا صيغة السلطة بإخلاء ميدان التحرير. لقد كانت طاقة ثورة25 يناير أكبر مما توقعه كثير من الاصلاحيين الذين لم تكن لديهم ثقة كافية في قدرتها علي الاستمرار حتي اسقاط حكم مبارك. كانوا مدركين ان خبرة هذا الحكم علي مدي سنوات طويلة لاتترك أي مجال للثقة في التزامه بأي صيغة للتغيير يمكن التوصل إليها معه, ومع ذلك كان الخوف من احتمال نفاد طاقة الثورة قبل إسقاط حكم مبارك دافعا إلي تفكير البعض في إمكان تحقيق اهدافها بشكل تدريجي, لكن مع استمرار الثورة والمحافظة علي مركزها في ميدان التحرير, بدءا بصيغة من نوع نقل سلطة رئيس الجمهورية أو تفويضها إلي نائبه في اطار تغيير واسع النطاق, وهي الصيغة التي شارك كاتب السطور في طرحها في الأول من فبراير2011, مع مجموعة ضمت الأساتذة د. كمال أبو المجد والمهندس نجيب ساويرس ود. نبيل العربي وسلامة أحمد سلامة, وإبراهيم المعلم وعبد العزيز الشافعي ود, عمرو حمزاوي وجميل مطر والسفير نبيل فهمي, ود, ميرفت التلاوي ود. عمرو الشوبكي والمهندس علي مشرفة بيان المجموعة التي اطلق عليها اعلاميا لجنة الحكماء والمنشور في بعض الصحف الصادرة يوم الخميس3 فبراير2011. واجتمعت هذه الشخصيات علي عجل في لحظة كانت بالغة الصعوبة بناء علي مبادرة من د. كمال أبو المجد وكاتب السطور خطرت لهما خلال اتصال تشاوري بينهما في الأول من فبراير2011 اتفقا خلاله علي ضرورة القيام بتحرك عاجل يهدف إلي انتزاع مكسب سياسي هو ابعاد مبارك عن المشهد عبر نقل سلطاته إلي نائبه رئيس الجمهورية, وآخر ميداني هو ضمان سلامة المتظاهرين والمعتصمين سعيا إلي استمرار الثورة إلي أن تحقق اهدافها كاملة. ولذلك لم تطلب هذه اللجنة ابدا إخلاء ميدان التحرير, وإن كان قليل من اعضائها رأوا ذلك. غير انه في ظل فرق التوقيت الهائل بين ساعة الثورة المتدفقة بالحيوية وساعة الحكم المتجمدة منذ سنوات طويلة, جاء بيان التفويض متأخرا تماما وفارغا من المضمون, فأعطي الثورة المزيد من الطاقة علي نحو عجل بانتصارها بعد ساعات. وكان المنهج الثوري ابعد نظرا من المنهج الاصلاحي في الرهان علي اسقاط مبارك بضربة واحدة, ولكن الاصلاحيين كانوا علي حق عندما نبهوا إلي ان تنحي مبارك او استقالته أو رحيله لايكفي لبناء مصر الحرة العادلة, وأن الثورة لاتحقق اهدافها بمجرد غيابه عن المشهد, وان تحرير القصر الرئاسي منه لايعني تلقائيا تحرير المصريين من عصر الظلم والفساد والقهر, وان الاصرار علي خريطة طريق محددة للمرحلة الانتقالية ومابعدها لايقل أهمية. ومثلما اصاب الثوريون في تمسكهم بما اعتبروه مطلب الحد الاقصي وهو تنحي مبارك, فقد كان الاصلاحيون مصيبين بدورهم في موقفهم الذي اعطي اهمية اكبر لخريطة الطريق نحو الحرية والعدالة علي اساس ان انهاء النظام القديم وبناء النظام الديمقراطي هو الحد الاقصي الفعلي, وان تنحي مبارك يعتبر والحال هكذا حدا اقصي رمزيا, ولايخفي ان الاصلاحيين بحكم منهجهم لا يثقون في ان الثورة تحقق التغيير الذي يريده الناس في كل الاحوال, فكم من ثورات تعثرت في الطريق أو ركبها انتهازيون وأقصوا الثوريين أو همشوا دورهم, ولذلك لم يكن القول المنسوب إلي أكثر من شخصية تاريخية, وهو ان الثورة قد يصنعها مغامرون ويستفيد منها انتهازيون إلا نتيجة تجارب حافلة بالدروس. وليست قدرة انتهازيين علي جني ثمار بعض الثورات إلا احدي قضايا الخلاف التاريخي بين الاصلاحيين الذين يسعون إلي التغيير عبر إصلاح تدريجي بشرط ان يكون حقيقيا والثوريين الذين يرون ان الثورة هي الطريق الي تغيير حقيقي, غير انه عندما تغلق ابواب الاصلاح, لايبقي غير الثورة طريقا. ولذلك فمن بين دروس كثيرة لثورة25 يناير سيقف امامها علماء وخبراء وسياسيون من مختلف انحاء العالم, بيرز الدرس المتعلق بجدلية الاصلاح والثورة الذي يناقشه كاتب السطور في كتابه الجديدثورة25 يناير.. قراءة أولي الذي سيصدر بعد أيام عن مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد