ما أسرع ما تتدافع الأيام والأحداث منذ ابتداء ثورة الخامس والعشرين من يناير. بعد استقالتي من وزارة أحمد شفيق الأولي, دعاني المحاور النابه شريف عامر إلي البرنامج الذي يقدمه في تليفزيون الحياة. وفي غرفة الانتظار, وجدت عددا من الوزراء السابقين مجتمعين معا, وكان أكبرهم سنا, وأشهرهم في الوقت نفسه, الدكتور يحيي الجمل الذي كان من الأصوات القوية المعارضة لنظام الرئيس السابق, في وسائل الإعلام المختلفة, وبيني وبينه مودة قديمة, قاربت ما بيننا دائما. وكان معه في الغرفة نفسها الدكتور أحمد جمال الدين الذي حييته بحرارة, فقد جمعتني صلة طيبة به. منذ أن ضمني إلي لجنة الحكماء التي شكلها في وزارته لإصلاح التعليم, وكان أبرز من فيها أستاذنا الدكتور القصاص, ممثلا للجانب العلمي, والدكتور حامد عمار ممثلا للجانب التربوي, وانقطع عمل اللجنة بعد أن فعل نظيف بالرجل ما فعل, وجازاه جزاء سنمار, وإلي جانب الدكتور عصام شرف بكل تواضعه وأدبه, ولم أكن أعرف أن بيته يواجه عمارة هيئة التدريس( جامعة القاهرة) التي أسكن فيها, إلا منه, في حديثنا الودود القصير الذي جذبني إليه بصفاء شخصيته وتواضعه. وقد رأيت حوارهم في الحياة وأنا جالس في غرفة الانتظار, إلي أن جاء دوري فتبادلنا التحية الودودة. ولم أكن اعرف انه بعد ايام معدودة, سيتقدم أحمد شفيق بتشكيل وزارته الثانية, ويختار يحيي الجمل نائبا لرئيس مجلس الوزراء, ويترك له اختيار احمد جمال الدين زيرا للتعليم العادي والعالي, وعمرو سلامة وزيرا للبحث العلمي, وكان الاختيار غير منطقي, يرهق أحمد جمال الدين بكوارث وزارتين معا, ويحرم التعليم العالي من خبرة عمرو سلامة السابقة فيه, وزاد الطين بلة اختيار المهندس محمد الصاوي صاحب ساقية الصاوي وزيرا للثقافة, وهي وزارة ضخمة, لايعرف محمد المهندس تفاصيل, ولا خارطة, مؤسساتها الضخمة والعديدة, ذات القيادات المتميزة التي تؤهل كل واحد منهم لكي يكون وزيرا. وارتكب يحيي الجمل خطأ فادحا عندما اعلن خبر تشكيل وزارة أحمد شفيق الثانية في حديث تليفوني مع مني الشاذلي في برنامجها الحواري الشهير, مؤكدا انه اختار محمد الصاوي وزيرا للثقافة, وهو الأمر الذي لم يرق لكثيرين ودفع جمال الغيطاني إلي تقديم استقالته اعتراضا علي هذا الاختيار, الذي بدا كأنه أولي الاستقالات القادمة. ولكن وزارة أحمد شفيق الثانية لم تكن أسعد حظا من الأولي, خاصة أنها لم تتخلص ممن بقوا فيها من رموز الفساد القديم, ومنهم وزراء الخارجية والبترول والعدل, خصوصا بما فعله الأول من تقزيم المكانة الدولية والإقليمية للدور المصري, وما شارك فيه الثاني من صفقة بيع الغاز إلي إسرائيل, وما قام به الثالث في مجال القضاء. وتسارعت الأحداث بسبب تسارع إيقاع ثوار التحرير, ومطالبتهم أحمد شفيق بالاستقالة التي اضطر إليها, بعد أن وضعته اقداره في مكان هو جدير به, لكن في لحظة تاريخية غير مواتية. وكان الرجل علي درجة عالية من الشجاعة ومصارحة النفس والآخرين, فأعلن استقالته, وخرج من الوزاة الثانية محترما من الكثيرين علي ما قام به من جهد وطني صادق, لابد من تحيته عليه, خصوصا في زمن اصبح الاعتراف بالفضل لاصحابه اندر من الكبريت الأحمر. وجاء الدكتور عصام شرف الذي عرفه ثوار التحرير مع ابنه, فرشحوه مع حازم الببلاوي لمنصب رئيس مجلس الوزراء, وأحسن المجلس العسكري الأعلي باختياره وتكليفه بتشكيل رئاسة الوزراة الثالثة في زمن الثورة. وكان أول ما فعله الرجل أن تخلص من وزير الخارجية ووزيري البترول والعدل, وقصر عمل احمد جمال الدين علي التعليم العادي, وهو أدري بشعابه وترك التعليم العالي لعمرو سلامة الأخبر به, حاملا عبء البحث العلمي, وهو عبء كان يستحق وزيرا مستقلا من علمائنا الشباب الذين كان يمكن اختيار واحد منهم بمشورة أمثال احمد زويل أو فاروق الباز, فلا أزال أري في عالم شاب أملا في بناء وزارة بحث علمي جديد, ولكن في مقابل ذلك, أحسنت الوزارة الجديدة في اختيار وزير جديد للعدل, طيب السمعة, فضلا عن إعادة اختيار منير فخري عبد النور وجودة عبد الخالق جودة, ممثلين, مع غيرهما, معني الائتلاف الوطني, وتركت الإعلام دون وزارة, بعد ان اختارت وزارة أحمد شفيق الحل البريطاني بعدم تخصيص وزير الاعلام, مع أن اوضاع مصر الخاصة في تقديري تحتاج إلي وزير إعلام نظيف وشريف. واصلح الدكتور عصام شرف ما ارتكبه يحيي الجمل من خطأ اختيار الصاوي وزيرا للثقافة, فاختار عماد أبو غازي الذي كان اختيارا موفقا, أسعد الاوساط الثقافية, فهو يعرف دهاليز وزارة الثقافة, ويحبه المعارضون للسياسات السابقة. وأعلنت أسماء وزارة الدكتور شرف, التي قوبلت بالارتياح من الاغلبية الوطنية, أولا: لانها تخلصت من كل رموز الفساد القديمة وأدواته. وثانيا: لأنها أكدت النية في استئصال الفساد الذي لم يترك مجالا في الوطن إلا وتسلل إليه كالوباء, المؤكد ان الفساد الذي انكشف إلي الآن, ليس سوي الجزء العائم الظاهر من جبل الجليد الذي يظل أغلبه مغمورا تحت سطح الماء, يتربص بضحاياه من السفن التي يحطمها إذا لم تنتبه لوجوده المقرون بالدمار. ولذلك فإن المخاطر والتحديات التي تواجه وزارة الدكتور شرف كثيرة, لا تقتصر علي الأمن والأمان فحسب, فهناك الضرورة الحتمية لإعادة بناء كل ما هو قائم, وهناك ضرورة التخلص من بقايا رموز الفساد في الصفوف الثانية والثالثة وما دونها. ولحسن الحظ, فإن تسارع إيقاع تقديم المفسدين إلي النيابة والمحاكم بأنواعها هو أمر يحسب لهذه الوزارة في ميزان حسناتها, خصوصا في مواجهة الاخطبوط الهائل من الفساد الذي تراكم علي امتداد نصف القرن الأخير, ومنذ ايام السادات التي لم تعرف بلاء التوريث الذي كان من أهم عوامل القضاء علي نظام الرئيس السابق. وما يطمئني في هذه الوزارة وجود امثال: سمير رضوان, وجودة عبد الخالق, ومنير فخري عبد النور, وفايزة أبو النجا, ونبيل العربي, وأمثالهم, فهم لا يعرفون بالنزاهة وحدها, وإنما هم ممثلون لنوع من التعددية الفكرية التي أري فيها بداية الطريق السريع لتقدم الوطن, فلا يزال إيماني قويا بما سبق أن كتبت عنه مرات, من أن خروج مصر من الكارثة, التي لم تخلص منها بعد, لن يكون في احتكار تيار واحد, أو حزب واحد للحل أو السلطة في مصر, فالكارثة أكبر من قدرة أي تيار وطني بمفرده, أو حتي حزب واحد, الحل هو تشكيل جبهة بأوسع ائتلاف وطني. وهي مهمة كل القوي السياسية التي لابد لها أن تسهم إيجابيا, وبروح خلاقة, داعمة للحوار. أما السلبية الوحيدة التي لا أزال ألاحظها علي وزارة الدكتور عصام شرف فهي ندرة العناصر الشابة, فلا فارق جذري بينها والوزارة السابقة من هذا الجانب, سوي استبدال عماد أبو غازي بمحمد الصاوي. ولكن الدعوة إلي الشباب لا تزال قائمة, فلا يعقل أن تزيد سن نائب رئيس مجلس الوزراء عن ثمانين عاما, ولا أن لايكون في الوزارة سوي واحد خمسيني العمر. لقد أظهرت ثورة الخامس والعشرين من يناير الكثير من أمثال: عمر الحمزاوي, ووائل غنيم, واظهرت الدور الفكري الذي لا يزال يقوم به أمثال: عمرو الشوبكي, وبلال فضل, وإبراهيم عيسي, ونبيل عبد الفتاح, ووحيد عبد المجيد, وغيرهم ممن نسيت اسماءهم, وهم اكثر ممن ذكرت, فضلا عن فنانين من أمثال: خالد يوسف وعمرو واكد, وعمار الشريعي, ومجدي أحمد علي, ومحمد عبلة, وعادل السيوي, وغيرهم وغيرهم من نجوم مصر الحزينة الذين اضاءوا سماءها التي أظلمت, ولكنها تشرق مرة أخري بكتاباتهم وإبداعاتهم, فهؤلاء هم أمل مصر الحزينة في المستقبل الذي فجرته دماء خالد سعيد, وبعده دماء أمثال إسلام بكير, وسالي زهران, وهدير عادل سليمان, وكريم عبد السلام, وأحمد بسيوني, ومريم مكرم نظير, وطارق مجدي مصطفي, وعشرات غيرهم, واغتالتهم رصاصات زبانية العادلي وبلطجيي الحزب الوطني الذي لابد من استئصاله بعد جرائمه في حق الشعب المصري وزهرة شبابه في القاهرة والمدن التي امتد إليها نبض ثورة يناير العظيمة. ولكن حسبي من الوزارة الحالية أنها وزارة انتقالية, تتضمن معني الإصرار علي طريق الائتلاف الوطني الذي لانزال في أولي درجاته. ولا أزال أحلم بالتقدم الذي نحن جديرون به, بحكم التاريخ والجغرافيا, وضد الفساد الذي نالنا منه الكثير الفظيع. ولعصام شرف, الوطني المخلص, طيب دعواتي. وقلوبنا معه في الحزن والإحباط اللذين قد ينتابانه مثلنا, فهو منا ونحن معه فيما نواجهه من تقلبات تجربة التحول الصعبة. ولأقرانه من الوزراء الدعوة المخلصة بالتوفيق في العبور بنا إلي طريق النجاة. أما القراء المواطنون, فأدعوهم, مثلي, إلي الصبر الجميل علي الأغلبية من الوزراء الذين جاوزوا الستين بكثير, فهم المعبر الذي سيفضي إلي تحقيق أحلام الشهداء بالزمن الآتي بالنجوم الوضاءة علي الكفين: الحرية, والعدل, والتقدم, والدولة المدنية القائمة علي المواطنة, والدستور الذي يصنعه البشر علي أعينهم, ليحقق أنبل أمانيهم وأجملها. أما نحن الذين جاوزنا الخامسة والستين, فعلينا الاكتفاء بالتعبير عن رأينا بوصفنا مواطنين, وتقديم المشورة لمن يريد. والإبقاء علي جذوة الحلم العادل بأن يري أولاد حارتنا مشرق النور والعجائب. المزيد من مقالات جابر عصفور