لابد من اعترافي بأن من أهم ما شدني من موضوعات أثارها الدكتور احمد شفيق رئيس الوزراء السابق في اول لقاء له بعد توليه رئاسة الوزارة هي تلك التي أشار فيها الي إقدام عدد من سكان الريف علي تجريف مساحات من الارض الزراعية وبناء مساكن عليها, في الوقت الذي كانت فيه أجهزة الدولة في المحافظات غائبة او مشغولة بأمور اخري. ويمكن استنتاج الشريحة الاجتماعية التي ينتمي اليها هؤلاء المتعدون علي الارض الزراعية, من الصعب تصديق انهم ينتمون بشكل كاسح الي شريحة صغار الفلاحين الذين يملكون حيازات قزمية لا تستطيع سد رمق اسرهم او حتي نصف هذا الرمق, من نتاج جهدهم الزراعي تصل نسبة هؤلاء الي83% من مجمل عدد الحائزين. هؤلاء لا يملكون المدخرات التي تسمح لهم بسرعة التحرك وبناء المنازل علي الأرض الزراعية في18 يوما هي ايام الثورة الديمقراطية الشبابية,25 يناير 11 فبراير.2011 واذا كانت ثورة الشباب قد رفعت مطالبها الساعية الي الحرية والتغيير والعدالة الاجتماعية, فإن هذا الموضوع الذي اشار اليه الدكتور أحمد شفيق رئيس الوزراء السابق يشدنا إلي محاولة البحث عن تطبيق هذا الشعار علي واقع52% من الشعب المصري, وهم سكان الريف القائمون علي العمل الزراعي المحصولي والحيواني والداجني والذين يكونون غالبية نسبة ال40% من فقراء مصر. هذه النسبة الغالبة من سكان مصر تحتاج بشدة الي التطبيق السريع والصحيح لهذا الشعار, الحرية والتغيير والعدالة الاجتماعية. فحالة القهر والجمود السياسي والفقر والأمية التي تعيشها هذه النسبة الكبيرة من سكان مصر هي التي تجعلها تقف سلبية عاجزة عن الحركة امام تجريف وتبديد ثروة بلادها الاساسية وهي الارض الزراعية, خاصة الارض السوداء كما نطلق عليها, والتي ورثناها جيلا بعد جيل, بعد ان استمر تراكم طبقاتها علي مدي آلاف السنين. واذا كانت ثورة ال25 من يناير2011 سعت وتسعي إلي تحرير مصر والمصريين, وإذا كانت تطلب التغيير لمصر بجهد المصريين, وإذا أرادت ان تحقق العدالة الاجتماعية لكل المواطنين, فإننا لابد من التوجه بهذا الشعار إلي حيث يسكن ويعمل وينتج غالبية المصريين وهو الريف اي القرية المصرية. هذا الحديث ليس بالجديد قيل سابقا ولا يزال يقال, لكنه كان يقال احيانا بسطحية وفي آن اخر بمنهاج موضوعي يساعد علي الاستنهاض بمصر من القاعدة الي القمة. واذا كنا نسعي في هذا المقال الي التوجه بالشعار الي قاعدة المجتمع المصري, أي إلي ريفه حيث الغالبية من المصريين ومن الفقراء, فاننا نفعل ذلك بوعي من خلال إعادة قراءة تاريخ مصر الحديث تعلمنا من تاريخنا هذا, ان التغيير السياسي العلوي قد لا يحقق كل نتائجه ان لم يستند إلي تغير سياسي قاعدي صلب. وكم من التغيرات العلوية الديمقراطية او القريبة من الديمقراطية, قامت وحدثت في تاريخ مصر الحديث, ولكنها تعرضت الي التراجع كنتيجة لبقائها علوية تدور في الحضر الكبير, وفي إطار شرائح الطبقة الوسطي دون ان تمتد الي القاعدة الهرمية العريضة. وطالما كانت القاعدة المصرية البشرية والانتاجية هي الريف ببشره وبأرضه وبمساهمته الاقتصادية المهمة فان التغير الديمقراطي لابد ان يمتد الي هناك, ليس بمحاولة فرضه او التحدث بالإنابة عنه, وإنما من خلال توفير كل فرص الاندماج الديمقراطي له في المشاركة العامة الساعية الي إعادة بناءمصر كلها. كما أننا لا نحصر هذا التوجه في مجال العمل السياسي فحسب, بالرغم من أهميته البالغة. إنما نجده ضرورة ملحة في وقتنا الحالي, ضرورة سوف يكون لها انعكاساتها علي واحدة من أهم مشاكلنا الحالية وهي دفع عجلة الاقتصاد المصري للامام من اجل تحقيق نمو اقتصادي يعود بثماره علي جموع الشعب, وليس علي فئة صغيرة تشكل الطبقة الاجتماعية العليا ذات الامتيازات الكبيرة. اي تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية يسهم فيها الجميع ويجني ثمارها الجميع. خلال السنوات السابقة التي قد تمتد لاكثر من عقود زمنية ثلاثة تعالت آراء اقتصادية ديمقراطية جريئة عديدة تطالب بالبدء في إجراء إصلاحات اقتصادية محددة لإحداث التوازن بين قطاعات الاقتصاد المصري, وشرحت هذه الاراءعناصر التوازن علي انها اهم ضمان لمسيرة الاقتصاد ولتحصينه امام الأزمات, لان التوازن يقلل من الاعتماد علي الجانب الريعي من الاقتصاد ويقوي من جانبه السلعي, الزراعي والصناعي, المكونين للقطاع المتحقق من القيمة المضافة. فالأزمة الاقتصادية الحالية توضح بشكل لا يحتاج للتعليق او للشرح كيف أن الاعتماد الأكبر للاقتصاد المصري علي الدخل من السياحة وحركة مرور السفن في القناة وبيع البترول, ثم علي ما تبقي من تحويلات المصريين من الخارج, وتدخل كل هذه الانشطة ضمن ما يسمي اقتصاد الريع,لا يحقق ولا يضمن سلامة الوطن. وانما تتعرض هذه السلامة لكل الأخطار في حالة وجود ازمة تتعطل أو تتراجع فيها مصادر الريع, سواء كانت الازمة بسبب داخلي او خارجي. وفي الاقتصاد كما في السياسة, ان لم يعتمد الاقتصاد علي قاعدة صلبة يشارك فيه المواطنون كشركاء منتجين يسهمون في تأسيسه علي أبنية انتاجية زراعية وصناعية قوية, يصبح في مهب الريح امام أي هزة يتعرض لها الوطن. المهم في هذه الشراكة ان تقوم علي اساس المواطنة الحقيقية لهؤلاء المواطنين الشركاء لهم ذات الحقوق وعليهم ذات الواجبات, وان يتم توزيع ناتج جهدهم بالعدل او كما حمل الشعار الشبابي.. العدالة الاجتماعية. وعلينا ان نعي جميعا وباستمرار, ان نسبة52% من المصريين تعيش في قري مصر وليس في حضرها, وان اكبر كتلة ناشطة في الاقتصاد عاملة منتجة تعمل في القطاع الزراعي اساسا, وكذلك في الاعمال المرتبطة به, واننا نعيش ومعنا, وعلي اكتافنا, فجوة غذائية كبيرة لا يمكن تضييقها إلا بالتوجه الجاد نحو ريفنا ونحو فلاحينا من رجال ومن نساء, ثم المهم, نحو زراعتنا. وكما ذكرنا, ليست هذه الآراء جديدة او ابنة اللحظة السياسية الراهنة, بل هي آراء متكررة وردت كثيرا في كتابات واحاديث وحوارات, وان لم يكن يستمع لها, وربما يكون قد آن الأوان لان يلتفت اليها ويلتف حولها كل من اقتنع بها قديما او من سيقتنع بها في المستقبل, لكن لابد ان تطرح للمناقشة العامة, خاصة اذا أردنا ان نعيد بناء مصر علي أسس لا تسمح بأي عودة سياسية أو اقتصادية, للوراء. المزيد من مقالات أمينة شفيق