حين هتف شباب مصر في أول أيام ثورتهم بالهتاف الذي رددته الملايين من ورائهم: الشعب يريد إسقاط النظام وما يتضمنه من حرص علي لغة عربية صحيحة, ثم بعد أن تتابعت نداءاتهم وشعاراتهم علي مدي الأسابيع المتصلة, في لغة سليمة تفجر بها شعورهم الوطني الفائر وعزمهم المتقد, وجدت نفسي تسترجع الشعارات التي رفعها الحزب الوطني في مؤتمراته السنوية الأخيرة, التي ادعي فيها رجاله التعبير عن فكر جديد ورسالة جديدة إلي الشعب, وكان المثير للحزن والسخرية معا, اختيار الحزب الحاكم لشعارات صاغها من صاغها من عقول الحزب المفكر في لهجة عامية سوقية, ظنا منه أن الشعار بهذه الطريقة يكون أكثر قدرة علي الذيوع والانتشار ومخاطبة الجماهير, ونسي صاحب هذا الفكر المتخلف أن هذه الجماهير متعلمين وأميين, مثقفين وغير مثقفين يفهمون العربية الصحيحة ويتذوقونها, حين يستمعون إلي نشرات الأخبار, وقراءات القرآن الكريم, والبرامج السياسية والثقافية والفنية. ونسي صاحب هذا العقل المتخلف ثانيا أن كثيرا ممن لا يقرأون ولا يكتبون, قادرون علي الفهم الصحيح والمتابعة الكاملة, وأن الأمية الكتابية والقرائية لم تعد حاجزا يفصل بين المواطن والمعرفة, التي يستطيع الحصول عليها بالاستماع والمشاهدة, وأن الأمية الحقيقية الآن لم تعد تلك المرتبطة بالقراءة والكتابة, بل هي البعيدة عن استخدام وسائل الاتصال الحديثة والناتجة عن العزلة والانقطاع عن مؤثرات الحياة والمجتمع. لكن شعارات شباب الثورة ونداءاتهم وولافتاتهم التي جاءت في صورة لغوية صحيحة لم تجيء هكذا مصادفة, وإنما هي المعادل الموضوعي الحقيقي لما في أعماقهم من انتماء إلي الوطن ومن هوية قومية, اكتسبت لغتها القومية بصورة عفوية وغير مفتعلة. وهو ما يؤكد أن الفطرة السليمة والنزوع السليم ينتج عنهما لغة سليمة, وأن افتقاد الانتماء الوطني والحس القومي الذي انتقدناه لدي بعض قطاعات الشباب قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير كان هو المسئول عن انحدار المستوي اللغوي الذي يتخذونه لغة خطاب وتواصل. وفي ظل هذا الافتقاد للهوية والوطنية كانت لغة بعض النصوص الغنائية والمسرحية والسينمائية تمثل هبوطا إلي قاع المجتمع, وحرصا علي التدني والإغراق في السوقية, في حين أن استخدام العامية في صورتها الفنية الجميلة ومستواها الأرقي ليس بالأمر الصعب أو المستحيل, وهي العامية التي أبدع بها أحمد رامي وبيرم التونسي ومرسي جميل عزيز وصلاح جاهين وفؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحيم منصور ومجدي نجيب وغيرهم ممن تدين لهم العامية ببلاغتها وعبقريتها, وتنطق من خلال نصوصهم وإبداعاتهم بكل سحرها وبهائها المكافيء والموازي لبلاغة الفصحي وعبقريتها. وإذا كان شباب الثورة بما صنعوه من معجزة لم تكن تخطر علي بال أحد, وما تعرضوا له من صنوف التحدي والمواجهة, والاستشهاد من أجل الوطن والتضحية بالدماء ثمنا لحريته وعزته وكرامته إذا كانوا قد قدموا المثل في الوطنية, فهم أيضا القادرون بوطنيتهم وانتمائهم علي تحقيق مناخ لغوي جديد, يعاف السوقية ويحارب الابتذال, ويقضي علي التدني, ويصبح مكافئا لكل ما نطمح إليه من نهضة وتقدم, ولن تتاح النهضة لشعب لا يحترم لغته, ولا يصونها من الشوائب التي شاعت في مجتمع ما قبل ثورة الشباب, ولا يجعلها مشعلا يضيء له سبل العلم والمعرفة التي بفضلها قامت حضارات اليوم من حولنا شرقا وغربا. لقد ظلت المؤسسات اللغوية الكسيحة في بلادنا زمنا طويلا, عاجزة عن الوصول إلي الانسان المصري, بعيدة عن استثارة وعيه وحميته وإرادته, وظلت هذه المؤسسات تقذف بالتوصيات والنصائح والقرارات والمراجعات, لكن هذا كله كان يصب في البحر ولا يحقق الآمال المرجوة, الآن, يجد المجتمع في شباب الثورة, وحملة مشعلها, قاعدة عريضة وقوة ضاربة, تملك أن تنفخ في روح الأمة, وأن تضخ في شرايينها كل عناصر الحياة الجديدة, وكل دوافعها وحوافزها وآلياتها, وفي مقدمة هذا كله, اللغة التي بها نتواصل, ونفكر, ونبدع, ونترجم, ونتفاعل مع غيرنا من أصحاب اللغات والثقافات والحضارات, اتفقنا معهم أو لم نتفق. إن ثورة الخامس والعشرين من يناير, جديرة بهذا الدور الوطني والقومي في مجال اللغة, جديرة باجتثاث حالة التردي والإسفاف التي سيطرت علي الوطن في عقوده الثلاثة الأخيرة, وزادها سوء الفكر المتخلف لقادة الحزب الوطني البائد الذين رأوا في ابتذال اللغة وسوقيتها سبيلا إلي استهواء الجماهير والسيطرة عليها وترويج شعاراتها. لكن الجماهير أسقطت فيما أسقطته هذا الفكر السوقي, وهذا التوجه الذي يكشف عن خواء العقل, وسيطرة الجهالة والجهلاء. المزيد من مقالات فاروق شوشة