لو نظرنا إلي الثورات التونسية والمصرية والليبية واليمنية والبحرينية بتمعن, وفي غيرها من الظواهر الاحتجاجية المرشحة للتحول إلي ثورات أخري مماثلة كما في المغرب والجزائر وعمان وسوريا, لوجدنا أنهم جميعا في الجوهر يدورون حول هدف واحد رئيسي هو تحقيق الديمقراطية, والتخلص من حكم الفرد, جمهوريا كان أو ملكيا. وحتي الآن لم تنجح دولة عربية واحدة في بناء نظام ديمقراطي سليم يتحقق من خلاله فكرة تبادل السلطة, والوصول إليها من خلال صناديق الانتخاب, حتي وصل الأمر إلي بقاء رؤساء دول فوق مقاعدهم حتي نهاية العمر, أو استيلاء أخرين علي السلطة من خلال مؤامرات قصر أو انقلابات عسكرية. ومفهوم صندوق الانتخاب مازال غريبا ومنبوذا وبعيدا عن الفكر العربي برغم اهتمام معظم الدول العربية بتطوير الاقتصاد والتعليم والثقافة والفن ولكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلي فكرة الديمقراطية الحقيقية, والوصول إلي الحكم من خلالها. وضعت ثورة عبدالناصر1952 ستة أهداف للثورة آخرها إقامة نظام ديمقراطي حر. لكن هذا الهدف لم يتحقق قط في عصور عبدالناصر والسادات ومبارك, ولم تطبق فكرة تبادل السلطة مع آخرين باستمرار كل من عبدالناصر والسادات في سدة الحكم حتي موتهما. أما مبارك فقد ظل في مكانه لمدة ثلاثين عاما حتي أطاحت به ثورة شعبية. وفي عصر هؤلاء الرؤساء رأينا وزراء يبقون في مناصبهم لأكثر من عشرين عاما. هناك إذن عداء جوهري بين الديقمراطية والاستبداد, وبين الحرية والتمسك بالحكم وتوريثه إلي الأبناء, حتي أصبح ذلك شيئا يتكرر التفكير فيه من دولة عربية إلي دولة عربية أخري. وكانت مصر قريبة من السقوط في هذا النموذج التوريثي البغيض, وكذلك اليمن وتونس وليبيا, لولا الثورات المباركة والانتفاضات الشعبية الجسورة التي قضت علي نظم الحكم المتمسكة بتلابيب السلطة حتي لحظة النهاية. جيراننا علي الشاطئ الآخر من المتوسط مروا بنفس هذه التجربة ودفعوا ثمنا باهظا من أجل الديمقراطية, لم يعانوا من الاستعمار لأنهم كانوا هم المستعمرين, ولكنهم عانوا من نظم الحكم المستبدة المدنية والعسكرية. والأمثلة كثيرة مثل أسبانيا والبرتغال واليونان وايطاليا فضلا عن كل دول أوروبا الشرقية وسيطرة الأحزاب الشيوعية عليها. وعندما فكرت بلد مثل تشيكوسلوفاكيا أن تتحول إلي الديمقراطية دخلتها الدبابات الروسية, وقضت علي ربيع براغ كما أطلق عليه في ذلك الوقت. هذه البلاد لم تكن تعاني اقتصاديا لدرجة الفقر, ولكنها كانت تعيش تحت وطأة الخوف المستمر من البوليس السري, إلي أن تخلصت من كل ذلك بسقوط حائط برلين, وتحولها إلي بلاد ديمقراطية, وصار معظمهم أعضاء كاملين في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وروسيا أيضا في سبيلها للانضمام إلي هذا الفضاء المطل علي آسيا من الشمال, والمحيط الهادي من الشرق. وأصبح الشرط الأول للانضمام إلي هذا الفضاء المتجانس أن تكون الدولة ديمقراطية قبل أن تكون غنية أو فقيرة أو كبيرة أو صغيرة. في ابريل2005 صدر تقرير من اليوروميسكو بعنوان نحو مجتمع أوروبي متوسطي من الدول الديمقراطية شاركت فيه أنا والصديق العزيز د. جمال عبدالجواد من مصر مع آخرين من دول شمال وشرق المتوسط وأوروبا. ومقارنة بتقارير أخري صدرت قبله واقتصرت فقط علي بناء الثقة بين دول شمال وجنوب المتوسط, ركز التقرير المشار إليه علي إعلاء مفهوم جماعة الدول الديمقراطية الأوروبية المتوسطة, وأهدافها, والقواعد التي تقوم عليها. ومن أهم هذه القواعد جاءت الديمقراطية في الصدارة, والتأكيد علي الاصلاح السياسي, والاهتمام بدور المجتمع المدني بما في ذلك الجماعات الاسلامية العاملة في هذا المجال, مع رفض للعنف السياسي بكل صوره. والقاعدة الثانية كانت التعددية واستيعاب الجميع داخلها, وورفض مبادئ الاستقطاب والرفض للآخرين. والقاعدة الثالثة تحقيق أمن المواطن بالمزج بين الأمن والعدالة, وإعلاء شأن القانون فوق الجميع. والقاعدة الرابعة تأكيد مبادئ المساندة المشتركة والتضامن الاجتماعي, وأخيرا النظر إلي موضوع الهجرة من منظور التكامل البشري والاقتصادي, وليس من منطق أمني. نأتي إلي الحالة الليبية تحت حكم العقيد القذافي كمثال صارخ لدولة تتشدق بالسيادة, والصراع بين الاسلام والغرب, متناسية ما أقدمت عليه من عمليات إرهابية ضد طائرات مدنية, وما بعثرته من بلايين الدولارات للخروج من أزمات دولية. أما نظام الحكم الذي استمر لأكثر من أربعين عاما بدون انتخابات حقيقية وبدون حرية رأي فقد سيطر علي ليبيا من خلال أسرة واحدة تقود كل شيء بما في ذلك القوات المسلحة والسياسة الخارجية, وبدون مشاركة حقيقية من الشعب الليبي, ولم يكن غريبا أن ينضم إلي الثوار الليبيين سفراء في الخارج, وممثلون في الجامعة العربية, وأيضا من داخل الجيش الليبي نفسه. وبحكم موقع ليبيا علي البحر الأبيض المتوسط, وثروتها النفطية, وعلاقاتها المتوترة دائما مع الشمال, لم يكن من الممكن أن تتجاهل الدول الأوروبية ما يجري علي أرض ليبيا, بعد أن تفجرت من الداخل ثورة ضد هذا النظام المتكلس والخطير علي جيرانه وعلي شعبه. وفي ضوء احتكار العقيد القذافي للسلطة والثروة, كان من المتوقع أن تنفجر ثورة شعبية واسعة علي امتداد ليبيا كلها. بموافقة من الأممالمتحدة سمح لتآلف من الدول الغربية فرض منطقة منع طيران داخل ليبيا بما يعني أنهم سوف يضربون أي طائرة توجد في المجال الجوي الدولي الليبي, وأيضا ضرب طائرات العقيد القذافي الموجودة علي الأرض في انتظار أوامر للاقلاع, وكذلك تحييد كل قواعد الصواريخ المضادة للطائرات, وكذلك المدافع الموجهة ضد أي نشاط جوي. ولم يقتصر الأمر علي ذلك, بل قام التآلف الغربي بتنفيذ عمليات هجومية ضد المطارات العسكرية, ونظم الرادارات, وكل وسائل الاتصالات والسيطرة والتحكم, وكذلك ضرب طوابير مدرعات لقوات العقيد القذافي الذي لم يتردد في استخدامها ضد المدنيين, وينظر إلي ذلك علي أنه في صالح الشعب الليبي وحماية له, وليس غزوا لليبيا أو السيطرة عليها, كما تذيع أدوات الاعلام الموالية للعقيد القذافي. وقد يبدو كل ذلك سهلا وواضحا, إلا أن الواقع أكثر صعوبة. فالتمييز بين حماية المدنيين من جهة وبين إضعاف قدرات الجيش الليبي الرسمي من جهة أخري يعتبر عملية خاصة معقدة قد تفضي إلي وقوع اعداد كثيرة من المدنيين. وهناك أيضا الجانب الاقليمي, وتأثره بما يحدث من جراء كل هذه الأنشطة العنيفة, وكيفية تفسيره لها. وهل ما يجري علي الأرض ناتج من عمل تراكمي, أم أنها مجرد ثورات مؤقتة سوف تخمد مع الوقت وتعود الأشياء إلي ما كانت عليه. فما حدث حتي الآن في العديد من الدول العربية, وفي توقيت متقارب, يدل علي وجود ظاهرة حقيقية موجودة علي المستوي الاقليمي تعكس رغبة قوية في التغيير الديمقراطي, والتخلص من نظم الحكم القديمة بصورها المختلفة الموجودة منذ أمد بعيد وحان وقت استبدالها بنظم تتمشي مع المتغيرات علي مستوي العالم, وخاصة كل ما له علاقة بالنموذج الغربي الديموقراطي. وحتي الآن هناك أكثر من قصة لطبيعة التغيير علي امتداد العالم العربي, كما أن هناك صورا مختلفة لهذا التغيير طبقا لطبيعة كل بلد. واستخدام كلمات مثل ثورة للتعبير عن طبيعة ما حدث في مكان معين قد يتغير إلي تعبير مختلف أكثر تحفظا في وصف الظاهرة في مكان آخر. وكما أشرنا من قبل إلي نظرة العالم لما يجري عندنا وإعجابهم به فيجب أن نأخذ في الاعتبار من جانبنا بعض المتغيرات الثقافية والتاريخية المتعلقة بكل دولة, ومدي قدرتها علي دفع ثمن الديمقراطية الباهظ أحيانا والتمسك بها, وبدون عودة أو انتكاسة إلي الوراء. المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد