المراقب لما يحدث في سوريا الآن من تظاهرات أو احتجاجات قد يتخيل أن الثورة السورية علي الأبواب, وأن ما حدث في تونس والقاهرة قد يتكرر في دمشق؟ وأن الحراك الثوري العربي بدأ في التمدد ومحله الآن بلاد الشام. رؤية تحتمل الخطأ والصواب, ولا يحدد صوابيتها من عدمه سوي الاقتراب من المشهد بتفاصيله, ولأنني عشت في سوريا قرابة السنوات الأربع كمدير لمكتب الأهرام ولدي معلومات من شهود ثقات أستطيع أن أؤكد أن بداية الأحداث لم تكن سوي مجرد كتابات علي بعض الحوائط في مدينة درعا جنوب سوريا خطها نحو51 طفلا في المرحلة الابتدائية منادين بالشعار الشهير الشعب يريد إسقاط النظام, تأثرا بالثورة المصرية, وبما يرونه علي القنوات الفضائية, كما قام عدد محدود من أقارب المعتقلين السياسيين السوريين بوقفة احتجاجية أمام وزارة الداخلية في منطقة المرجا في قلب دمشق, وتلا ذلك تسخين من المعارضة ضئيلة الحجم والحيلة, والموجودة خارج سوريا, وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين, وحتي الآن المشهد لا ينم عن وجود لا هبة شعبية, أو حتي مظاهرات بالعشرات؟ لكن لشأن الدم قتل المتظاهرين هو الوقود الذي يشعل الاحتجاجات ويحولها إلي ثورة فعلا, ولأن القهر والفساد والديكتاتورية هي الأركان التي تقوم عليها الثورات, ولأن استعلاء السلطة خاصة السياسية والأمنية علي الناس هي التي تسرع من نهاية النظام, فالأمور بدأت تأخذ منحي آخر لا أقول ثورة, بل كسر لحاجز الخوف, وربما تصعيد أكبر, خاصة بعد مقتل6 أشخاص داخل المسجد العمري, بالإضافة إلي9 آخرين بمدينة درعا الأربعاء الماضي؟ وما يحدث الآن في سوريا كان مجرد التفكير فيه قبل ثورتي مصر وتونس ضربا من الخيال, إذ أن الواقع والمناخ السياسي والاجتماعي لا ينبئان بذلك برغم أن الشعب السوري مثله كبقية الشعوب في العالم العربي يتوق إلي الحرية والعدالة, وإنهاء الفساد, والقضاء علي الدكتاتورية, لكن المشكلة الرئيسية هنا أن ترسخ الخوف من السلطة, وتغلغل سيطرة حزب البعث الحاكم وهيمنته علي الحياة سياسيا واجتماعيا وتعليميا, وحتي الدستور السوري الذي ينص في مادة منه علي أن هذا الحزب هو القائد والأمين علي البلاد, وطوال حكم الأسد الأب والابن نجح النظام في نزع جين الاعتراض الوراثي, ومحو كلمة لا من قاموس الناس ليس في نطاق السياسة فقط, وإنما في معظم المجالات, لذلك يعتبر الكثيرون وأنا منهم ما حدث مفاجأة, إلا أن غباء أي نظام سياسي ديكتاتوري لابد أن ينتج رد الفعل العكسي ممثلا في مثل هذه الهبات أو التجمعات غير المنظمة, وفي كثير من الأحيان عشوائية, لكن نوبة الرعب من تكرار ما حدث في مصر أو حتي ليبيا يدفع النظام إلي مزيد من القسوة والشدة, وهو ما يستتبعه علي الجانب الآخر مزيد من المقاومة وأخذ الثأر. النظام في سوريا لم يصدق ما حدث في تونس أو مصر ولم يتخيل ما يحدث الآن في ليبيا, وبرغم أنه استبق الأحداث واتخذ بعض القرارات التي يري هو أنها تخفف من حدة تعاطف الشعب السوري مع هذه الثورات, مثل إلغاء غرامات المرور, واستمرار الدعم الحكومي لمادتي السكر والأرز, وتسريع خطوات الدعم لمادة المازوت, وبعد ذلك إعلان وزارة الشئون الاجتماعية والعمل السورية توزيع معونات نقدية علي204 ألف عائلة سورية( أصبحت جميعها تستحق صدقات النظام) بقيمة12 مليون ليرة سورية( نحو مليار ونصف المليار جنيه مصري) ستصرف في2011 من خلال الصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية المستحدث عقب ثورة تونس مباشرة, وبرغم هذه القرارات فإن ردة فعل الأمن الذي اعتقل الأطفال ال18 بعدما كتبوه علي الحوائط في درعا وقتل بعض المتظاهرين وصلوا عشرة حتي الآن دفع العديد من الأهالي إلي الاعتراض ومعظمهم من درعا التي كانت توصف بأنها معقل حزب البعث, ومنها قيادات عديدة بالبلد, وعلي رأسها الشرع نائب رئيس الجمهورية؟ الوضع في سوريا حتي الآن لم يتدهور, وهناك من ينفخ فيه من أصحاب المظالم كان جلهم خارج سوريا, وهو ما يضعف من قوة الاحتجاجات التي تستلهم قوتها الآن فقط من قسوة الأمن وما يحدثه يوميا من قتلي؟ وإذا لم يتوقف الأمن عن ذلك فالقادم أسوأ؟ المثير أن معظم المطالب التي شهدتها التظاهرات فئوية ولم تطالب بإسقاط الرئيس بشار الأسد, بل إن أقصي مطالبها صدر به عدة بيانات عن بعض منظمات حقوق الإنسان( كلها غير معترف بها من جانب السلطة), وكذلك ما يعرف بالتيار الإسلامي الديمقراطي, وأيضا الأكراد, وكلها تطالب بإقالة وزير الداخلية, بالإضافة إلي بعض الإجراءات الأخري, مثل رفع حالة الطوارئ, والأحكام العرفية, وإغلاق ملف الاعتقال السياسي, وإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين, وإلغاء المحاكم الاستثنائية, وإصدار قانون للتجمع السلمي يجيز للمواطنين ممارسة حقهم بالتظاهر, وإصدار قانون للأحزاب يسمح للمواطنين بممارسة حقهم بالمشاركة السياسية في إدارة شئون البلاد, أما غير ذلك فلم ينطق به سوي كتابات الأطفال في درعا؟ يبقي أن النظام السوري بالذات يتمتع بكثير من القوة الداخلية ممثلة في سنوات كثيرة من الهيمنة علي حياة السوريين, والرغبة الإقليمية أيضا, خاصة ممن هم علي حدوده مثل إيران وحزب الله في لبنان, وربما إسرائيل, وجميعها قوي لا تريد سقوطه لأنه ستنشأ معادلة جديدة قد تقلب موازين المنطقة, خاصة أن سوريا لديها أرض محتلة من قبل الإسرائيليين, والشعب السوري يريد إنهاء الاحتلال, وهو ما يعني الحرب؟. وأخيرا يمكن تقسيم الدول العربية إلي ثلاث مجموعات في طريقة تفاعلها مع الثورات والفورات والاحتجاجات التي شهدتها المنطقة منذ بداية هذا العام, المجموعة الأولي مستمرة في الثورة مثل مصر وتونس, أو مازالت تجاهد في سبيل ذلك مثل ليبيا واليمن, والمجموعة الثانية دول عندها مناوشات أو هبات مثل البحرين وسوريا والأردن وعمان والمغرب والجزائر والسعودية, أما المجموعة الأخيرة فهي غير المعنية أو المتفاعلة, وتضم معظم الدول العربية التي لديها انقسامات داخلية وأجندات ليس من بينها إقامة الدولة الرشيدة في الوقت الراهن مثل لبنان والسودان والصومال.. إلخ؟ وربما المجموعتان الأولي والثالثة وضحت وجهتهما نسبيا, وإن كانت الأولي مازالت في المخاض, أما المفاجأة الكبري في نظري فهي في المجموعة الثانية الأكثر غموضا, والتي تحتل فيها سوريا والبحرين قلب الأحداث.. وإنا لمنتظرون؟