أليس مستغربا أن تكون التعديلات الدستورية المعدلة التي وافق عليها الشعب يوم91 مارس متعلقة أساسا بانتخاب رئيس الجمهورية ثم نقرر بعد ذلك البدء بإجراء الانتخابات التشريعية قبل الرئاسية؟ ولو نظرنا إلي تسلسل الأحداث بعد حصول مصر علي استقلالها الصوري عام1922 نجد أن بداية إضفاء الشرعية علي الدولة بدأت بالرأس وذلك بحصول السلطان فؤاد علي لقب ملك مصر بصلاحيات جديدة ثم بعد ذلك تم تشكيل لجنة من30 عضوا لصياغة دستور عرف باسم دستور32 ثم في النهاية تمت الدعوة إلي انتخابات تشريعية جاءت بحكومة الوفد في بداية عام.1924 وهذا هو التسلسل المنطقي في رأيي لبناء مؤسسات الدولة في حالة وجود فراغ في السلطة كما هو الحال الآن في مصر. لكن المشكلة الرئيسية التي ستواجهنا علي المدي القصير هي أن النظام السابق قد أغلق بالضبة والمفتاح كافة مظاهر الحياة الساسية في مصر لمدة ثلاثين عاما استمرارا لسياسة الشرعية الثورية التي سادت منذ ثورة23 يوليو25 فكانت النتيجة أنه لا يوجد اليوم شخص واحد تنطبق عليه بالمعايير الموضوعية صفة رجل سياسة. هناك رجال تولوا المسئولية سواء من رؤساء الوزارات أو الوزراء ونجح بعضهم في عمله ولعل أبرز مثال علي ذلك وزير الخارجية الأسبق عمرو موسي الذي حظي بشعبية ضخمة لدي الرأي العام المصري والعربي ربما لم يحظ بها أحد في العقود الماضية ودفع ثمن هذه الشعبية بإقصائه عن منصبه. لكن كل هؤلاء المسئولين كانوا رجال سلطة بمعني أنهم وصلوا إلي مناصبهم باختيار شخص واحد هو رئيس الجمهورية السابق وبإرادته المنفردة. ورجل السلطة يدين بالولاء لرئيس الجمهورية الذي قام بتعيينه ويستطيع أن يقيله من منصبه في أية لحظة ودون إبداء أية أسباب. ورجل السلطة قد يكون شخصا يتميز بالكفاءة والاقتدار لكنه لا ينفذ سياسة عامة واضحة المعالم ومتفقا عليها سلفا وإنما ينفذ السياسة التي يرتضيها الحاكم والتي قد تتغير حسب أهوائه أو رؤيته الخاصة أو مصالحه. أما رجل السياسة فهو ينتمي إلي فصيلة مختلفة تماما من الرجال. فهو بداية ينتمي إلي حزب أو تيار له سياسة محددة تجاه أهم قضايا بلاده ومشكلات العالم الخارجي ولديه رؤية تتفق مع مبادئه ومثله العليا وما يعتقد أنه مصالح بلاده وهو يدين بالولاء للناخب الذي جاء به إلي منصبه وليس لرئيس الجمهورية. ورجل السياسة لا يصنع بمجرد قرار فوقي من رئيس الدولة أو الزعيم أو القائد لكنه يتربي في حضن حزب سياسي ويصعد درجات السلم الحزبي ويدخل في مناظرات ومواجهات سواء في وسائل الإعلام أو في لقاءات سياسية وندوات عامة وهو شخص يعرف الجميع مواقفه ومبادئه وتتم محاسبته في حالة تراجعه عن تلك المباديء. والشرط الأساسي الذي لا بد أن يتوافر في رجل السياسة هو أن ترقيه في المناصب مرتهن بخوض انتخابات علي مداي حياته العملية سواء علي صعيد الهياكل الحزبية أو علي صعيد الانتخابات المحلية أو التشريعية أو الرئاسية. ويستحيل أن نجد في الدول الديمقراطية شخصا يصعد ويرتقي السلم الوظيفي من فراغ وباختيار رؤسائه دون أن يكون قد نجح في الانتخابات وذاق مرارة الفشل والهزيمة أحيانا. ونظرا لأن نظام الحكم عندنا كان مبنيا علي رجال السلطة وليس علي رجال السياسة فقد كان كل الوزراء من المتخصصين في شئون الوزارة التي يديرونها فالوزير هو أكبر الموظفين شأنا وليس صاحب الرؤية السياسية الذي يضع الإطار والخط العام لوزارته ثم يترك كبار الموظفين ينفذون السياسة التي وضعها والمستقاة عادة من برنامج الحزب الذي يتبعه. فوزير الصحة عندنا طبيب ووزير الصناعة مهندس ووزير الداخلية يجب أن يكون ضابط شرطة ووزير الدفاع لا بد أن يكون من القيادات العليا للجيش. أما في الدول الديمقراطية المتقدمة فالأمر مختلف تماما. فوزير الداخلية الفرنسي أو الألماني لا يكون أبدا من صفوف ضباط الشرطة وإنما هو رجل سياسة يوجه قادة الشرطة في اتجاه تنفيذ سياسة الدولة وهو لا يتدخل في كل صغيرة وكبيرة ولا يتخذ قرارا فنيا دون الرجوع لكبار موظفي الوزارة وكلهم من قيادات الشرطة المتمرسين في العمل الشرطي. كذلك وزير الدفاع الذي يكون غالبا خبيرا في الشئون الاستراتيجية لكنه عادة ما لا يستطيع أن يمسك ببندقية ليصيب بها الهدف لأنه رجل سياسة وليس رجلا عسكريا. وفي فرنسا تقلدت سيدة تدعي ميشيل أليو ماري مناصب وزير الدفاع والداخلية والخارجية علي التوالي تحت حكم الرئيس شيراك ثم الرئيس الحالي ساركوزي وهي طبعا لم تكن ضابط شرطة ولا ضابطا بالقوات المسلحة الفرنسية ولم تعمل بالدبلوماسية في يوم من الأيام. ولا يعني عدم وجود رجال سياسة في مصر الآن أن نقف مكتوفي الأيدي وننتظر حتي يظهر جيل جديد أو أن ينجح الجيل الحالي في التحول من رجال سلطة إلي رجال سياسة. فنحن الآن في أشد الحاجة إلي الإسراع بخطوات ملموسة لعودة الحياة الطبيعية إلي مصر. وقد أحزنني عندما طالعت قائمة النظم السياسية للدول علي النت فوجدت مكتوبا أمام مصر جونتا عسكرية وهو تعبير سييء السمعة في العالم ويرمز إلي المجالس العسكرية في الدول الدكتاتورية بأمريكا اللاتينية وغيرها. ومن هذا المنطلق أري أنه يتوجب اتخاذ قرارات حاسمة من قبل المجلس العسكري الأعلي لفتح باب الترشيح لرئاسة دون إبطاء. نحن الآن في أمس الحاجة إلي رئيس في أسرع وقت ممكن ولن يجرؤ هذا الرئيس أن يكون دكتاتورا. ولو اعترض أحد علي وجود رئيس فيلكن هناك مجلس رئاسي مؤقت يسير بالبلاد إلي بر الأمان إلي أن نبني في غضون عامين لبنات حياة سياسية تفتح الباب لنظام ديمقراطي يختار فيه الشعب حكامه وليس الرئيس فقط وإنما أعضاء البرلمان والمحافظون وكل من يتولي مسئولية سياسية. ورئيس الجمهورية في النظم الديمقراطية يعلو فوق الأحزاب ومن المفترض أن يكون حكما عادلا بين فئات الشعب وطبقاته. لذلك فإن أول ورقة يوقع عليها رئيس فرنسا فور انتخابه هي استقالته من رئاسة الحزب السياسي الذي سانده في الانتخابات. لكنه ينبغي ألا نتكفي بانتخاب الرئيس لأن ثورة52 أظهرت الرغبة في وجود دولة تحكمها المؤسسات ولا يحكمها فرد أيا كان. وبالتالي فإنه يتوجب الإسراع بتشكيل لجنة لصياغة دستور دائم يتلوه انتخابات تشريعية. ومن يعترض قائلا إنه لا يمكن أن تعيش مصر دون مجلس شعب أو برلمان لمدة عام أو عامين أساله بدوري: هل قام البرلمان المصري بدوره خلال الخمسين عاما الماضية؟ المزيد من مقالات شريف الشوباشي