مما لا شك فيه أن المراحل الانتقالية في تاريخ المجتمعات كثيرا ما تتسم بالدقة والصعوية, ولا شك أن حجم وضخامة أحداث ثورة25 يناير وتبعاتها تجعل من حالة التحولات في مصر ربما الاضخم في تاريخها الطويل. علي أن متابعة الأوضاع الجارية في مصر تشير إلي استمرار الانشغال بالماضي بأكثر من التحضير والاستعداد للمرحلة السياسية المقبلة, وكذا استمرار تخوف عدد كبير من القوي السياسية والاحزاب بشأن ما يجب عمله بشأن استحقاقات الانتخابات المقبلة, واستمرار نفس الحجج حول بقايا الحزب الوطني والتنظيم القوي للأخوان المسلمين, هذا فضلا عن بقية جوانب الجدل السياسي المختلفة حاليا حول الدستور والفترة الانتقالية ومكافحة الفساد وضرورة عودة الأمن. ومن ثم فإنه لا يجري نقاش جاد حول البرامج السياسية المطلوبة من أجل نهضة الوطن والاستجابة لمطالب الشعب المصري بكافة فئاته. وكأن الخلاص من النظام السابق هو أمر كاف في ذاته لتحقيق مجتمع مصري جديد, وهذا أبعد ما يكون عن الواقع. وفي تقديري انه لم يحدث حتي الآن تآلف وطني الا حول اسقاط النظام السابق, وربما إلي حد كبير أيضا رفض أي فتنة دينية. ومازالت القوي السياسية المصرية تواصل إشكالها التاريخي في افراز العشرات من التنظيمات أو التجمعات حول اشخاص, ونادرا ما يكون التجمع حول أفكار أو توجهات. وفي الواقع أنه إذا استبعدنا الطموحات الفردية فإن قراءة مضمون شعارات الثورة حول الحرية والديمقراطية والعدالة وكذا تحليل توجهات أغلب الأحزاب القائمة في مصر خاصة حزب الوفد واحزاب حركات اليسار بتنويعاتها بعد تطوير رؤيتها لتواكب حقائق العصر وكذا احزاب مهمة كالجبهة الديمقراطية, فضلا عن حركات الرفض السياسية السابقة من كفاية و6 ابريل والجمعية الوطنية للتغيير, وربما ينطبق هذا ايضا علي عدد من الحركات والاحزاب السياسية الاخري العديدة وبالقطع ينطق هذا أيضا علي معظم تجمعات الشباب التي نشأت بعد الثورة, فإنه من السهل العثور علي قواسم مشتركة كافية لانشاء حركة سياسية واعية ذات مساحة عريضة في المجتمع المصري. وأحسب أن هذه المحاور يمكن إجمالها في الآتي: 1 اقتصاد حر مع رفض عميق لكل أشكال الفساد والاحتكار. 2 مفاهيم وسعي للعدالة الاجتماعية. 3 نظام ديمقراطي تعددي مكتمل الاركان في اطار نظام سياسي مدني. 4 سياسات وطنية وخارجية مستقلة. هذه المحاور تكاد تكون محل اجماع من هذه القوي جميعا, بالاضافة كذلك إلي أغلب مرشحي الرئاسة, ويتقدهم حاليا كل من د. محمد البرادعي والسيد عمرو موسي. وأزعم أن هذه المحاور هي محل إجماع أغلبية الشعب المصري كله. والسؤال البسيط بالتالي, حول تفسير المشهد الراهن, هو انه مع عدم انكار انه توجد بالفعل العديد من الخلافات في بعض الرؤي أو بعض التفاصيل وفي كيفية التنفيذ, فإن الأهم في الحقيقة أن الخلاف يدور حول الطموحات الشخصية,وكذا شكوك البعض في مدي وصدق التزام الآخرين بهذه المباديء الاساسية. وفي وقت تواصل فيه هذه القوي جميعا مخاوفها من القوي السياسية الأخري وعدم الاستعداد الكافي بعد وتنتقل مشاعر الخوف والقلق, كذلك الي فئات وفصائل عديدة في المجتمع المصري, فان هذا المجتمع أصبح يجد نفسه في حيرة أمام هذا المشهد المتفاعل كل دقيقة والراكد في نفس الوقت فيما يتعلق بكيفية الخروج إلي أفق سياسي أرحب. لقد كان أشكال وقوة ثورة25 يناير منذ البداية يتمثل في غياب القيادة والرؤي الموحدة مع الاكتفاء بالتوحد حول أهداف معينة, واليوم فإن الحفاظ علي هذه الثورة يقتضي بالضرورة الحفاظ علي مكتسباتها وطرح رؤية غير أنانية من أغلب فصائل وقوي الساحة السياسية التي تريد مجتمعا ديمقراطيا قويا لا يستبعد أي من أعضائه بسبب الدين, ويقدم الفكرة ومصالح الوطن علي الحسابات الشخصية. ويضيف إلي أهمية هذه الدعوة أي المسارعة بانشاء ائتلاف وطني واسع يضمن الحصول علي الاغلبية البرلمانية اللازمة ويضمن احداث التحولات الديمقراطية الضرورية, أن تحديات مصر اكبر من قدرة فصيل سياسي واحد علي التعامل معها, وأن سيناريو الائتلاف بعد الانتخابات هو الارجح. ولا أظن أن احدا من الواعين من هذه القوي السياسية المختلفة, بل ومن الشعب المصري كله لا يدرك حجم التحديات المتعين التعامل معها, من داخلية ابسطها في الحقيقة بالغ الضخامة, وهو اكمال التحول نحو الديمقراطية والتخلص من الفساد, أما أعقدها أو الجهاد الاكبر في الحقيقة, فهو كيقية بناءاقتصاد قوي يحقق طموحات الشعب المصري, فضلا عن كيفية اصلاح نظام التعليم وهو اصلاح ضروري لتحقيق الطفرة السياسية والاقتصادية, وكيفية الوصول بالوطن إلي ادراك أنه لا يمكن تحقيق هذا كله دون تطبيق واعلاء من شأن المنهج العلمي والعقلي والمؤسساتية في إدارة شئون الحياة وهو تحد آخر لا يقل صعوبة, ولكنه تحد شديد الارتباط بكافة جوانب عملية التحرك السياسي والاقتصادي. اما التحديات الخارجية فهي بالغة الصعوبة بدورها ويتقدمها كيفية معالجة ملف حوض النيل وتنشيط الدور المصري في إفريقيا وايضا العلاقات المصرية العربية, وعلي رأسها السودان وفلسطين وكيفية التعامل مع التحولات العربية الصعبة في المرحلة المقبلة. ومن ثم فإن كل هذه التحديات المعقدة والصعبة تقتضي ائتلافا وطنيا واسعا, يفهم معني الدولة العصرية ويضم كل القوي الليبرالية وتلك المؤمنة بالعدالة الاجتماعية, ائتلافا لا يستبعد شريحة ضخمة من مسيحيي الوطن, ائتلافا يقدم مصالح الوطن علي مصالح الاشخاص وطموحاتهم ويعزز من هذا أن هذه الطموحات شخصية, والمؤسف انها لن تنجح وستفقد فرصها في حالة استمرار هذا التشرذم في الحياة السياسية المصرية. ومن المؤكد أن كل يوم تبدأ فيه خطوات اعداد هذا الائتلاف الوطني الذي ليس حدثا فريدا في تاريخ الشعوب هو بمثابة تعزيز لفرص النجاح في الانتخابات وكذا في إدارة البلاد في المرحلة المستقبلية, وأن كل تأخر لن يسفر إلا عن مزيد من التراجع في مكتسبات الثورة وإضعاف وتأخير تحقيق الآمال والتوقعات التي ينشدها ابناء الوطن. سفير مصر لدي جنوب افريقيا