كان واضحا منذ بداية الإعلان عن التعديلات الدستورية وتحديد موعد الاستفتاء عليها أن الذين يرفضونها يشعرون أو علي الأقل يتعاملون باعتبارهم أقلية تسعي بكل الأساليب البائد منها والحديث لكسب أكبر تأييد ممكن من الرأي العام. وكان لافتا للنظر استخدام أحد الأساليب البائدة في التعبير عن الاختلاف وهو محاولة تقديم أنفسهم, باعتبارهم الوطنيين أو ممثلي التيار الوطني. فمنذ البداية وحتي إعلان النتائج تعامل فريق لا باعتباره تيار الثورة المعبر عن الصف الوطني, فخرجت شعارات من قبيل أن التصويت ب نعم يعني التضحية بدم الشهداء وشق الصف الوطني, ومقولات من قبيل أن خروج الإخوان من فريق لا يعني أنهم خانوا الصف الوطني. وكما كان متبعا في السابق تتطور الفرية ليقولوا أن من ينضم لفريق يلعب فيه الإخوان هو بالضرورة مناصر لهم ومعاد للدولة المدنية وطاعن للوحدة الوطنية, علي اعتبار أن فريق نعم هو كما عبر أحد أعضاء فريق لا هم العدو بقيادة فلول الحزب الوطني. بتعبير آخر فقد حاولوا تصوير من يقول لا باعتباره وطنيا ومن يقول نعم فهو غير ذلك أو علي الأقل مشكوك في وطنيته وقدراته العقلية. وكان من الطبيعي والحال كذلك أن تخرج مقولات من الجانب الآخر لتقول من يقول نعم سيدخل الجنة وأن التصويت بنعم واجب شرعي. والمدهش أن فريق لا وهو يبيح لنفسه محظورا وهو استخدام المال في السياسة عبر شراء صفحات كاملة في صحف وتسخير قنوات تليفزيونية لتعبئة المواطنين في اتجاه التصويت ب لا, يجرم استخدام الفريق الآخر للدين في السياسة, والأصل أن كلا منهما مجرم أو علي الأقل يجب أن يكون كذلك. أما الشئ الأكثر إثارة للأسي والخوف علي الغد, فهو ذلك الإصرار علي فرض الوصاية علي الشعب المصري من قبل فريق لا, باعتباره ناقصا أو فاقد الأهلية ولا يمكنه التصويت دون الخضوع لمغريات الدين والمال. فخرج علينا الزملاء من فريق لا ليؤكدوا أن المصريين صوتوا دون معرفة أو قراءة التعديلات الدستورية, وهذا يفترض بالطبع أن من صوت ب لا هو الذي قرأ ويعرف كل شئ علي حقيقته. وأن التيار الإسلامي قد نجح خلال الأيام العشرة في عملية غسيل مخ من صوتوا بنعم, وهنا يجب ملاحظة أنه لو كان ذلك صحيحا فماذا لو طالت فترة مناقشة التعديلات الدستورية كما يطالب فريق لا. وجدير بالذكر هنا أن من قال بهذا الرأي من فريق لا وفيهم كثيرون ممن يشتغلون بالعلوم السياسية قال به باعتباره معلومة مع أنه في الحقيقة لا يعدو كونه رأيا أو حتي تخمينا. فالحقيقة أنه قد تم بالفعل استخدام الدين في الدعاية للتصويت علي التعديلات الدستورية, ولكن الحقيقة أيضا أننا لا نعلم حجم هذا الاستخدام والأهم أننا لا نعلم تأثير هذا الاستخدام علي توجهات الناخبين, ففرق كبير جدا بين أن تستخدم دعاية ما أو سلاحا ما وبين تمكنك من إحداث التأثير, بل إنه يحدث في بعض الأحيان أن تأتي النتائج في الاتجاه المعاكس لرغبة من قام بالدعاية أو باستخدام السلاح. وبعيدا عما يثير الأسي, فإن الأهم هو دلالات نسبة التصويت العالية نسبيا بالمقارنة بالمعايير الدولية وغير المسبوقة بالنسبة لمعدلات التصويت المصرية في الاستفتاءات أو الانتخابات البرلمانية. والدلالة الأولي هي أن الشعب المصري بتلك الغالبية أثبت أنه مؤهل للدفاع بشكل شرعي وسلمي عن حقوقه وعن وجهة نظرة في حاضر ومستقبل مصر. إذ لا يخفي علي أحد أنه خلال الشهرين الماضيين والصراع علي أشده بين وجهتي نظر أساسيتين هما; هل تستمر الثورة في الشارع والميادين, أم أنه حان الوقت للانتقال إلي السياسة ومحاولة تفعيل نتائج الثورة بشكل أكثر استقرارا بعيدا عن العقول الساخنة والقلوب الملتهبة والصوت العالي حتي ولو كلفنا ذلك وقتا أطول وجهدا أكبر, علي اعتبار أننا نجري عملية إصلاح كبيرة لماكينة تعمل, ويجب ألا تتوقف عن العمل علي حد تعبير المستشار طارق البشري, رغم اعترافنا بأن عملية الإصلاح ستكون أسرع وأسهل في حال توقفت الماكينة عن العمل, ولكن هل نتحمل أن تتوقف الماكينة عن العمل, وهل نتحمل مرة أخري أن نتقاعس عن الإصلاح. الإجابة قطعا لا, وعليه فلا مفر من إصلاحها وهي تعمل. أما الدلالة الثانية المهمة فهي نسبة التصويت بنعم في المحافظات المختلفة. إذ إنه لا توجد محافظة واحدة من محافظات الجمهورية فاقت فيها نسبة التصويت ب لا علي التصويت بنعم, والأهم أن المحافظات الفاعلة أو القائدة لثورة25 يناير وهي القاهرةوالسويس والإسكندرية تحديدا قد غلبت نسبة التصويت بنعم فيها أيضا علي نسبة التصويت بلا, إذ أعلنت النتائج أن نسبة التصويت بنعم في كل من القاهرة والإسكندرية بلغت65%, وفي السويس بلغت78%, وقد كان من المتصور أن تلك المحافظات علي الأقل ستكون الأغلبية فيها لفريق لا. ومعني ذلك أن تصوير تلك المحافظات علي النحو الذي تم في أيام الثورة لم يكن دقيقا بالشكل الكافي. أما الدلالة الثالثة فهي أن الذين تبنوا فكرة التصويت بلا وحملتهم لتعبئة المواطنين في هذا الاتجاه هو في تقديري أحد أهم الأسباب لارتفاع نسبة التصويت ولارتفاع نسبة التصويت بنعم. فالمواطنون الذين صوتوا بنعم والذين تزيد نسبتهم علي ثلاثة أرباع من شاركوا في الاستفتاء(77.2%) قد استفزهم كثيرا إصرار فريق لا علي فرض وجهة نظرة أولا عبر تواجده في الشارع والتظاهر في كل مؤسسات الدولة وعبر الإعلام المقروء والمرئي لاحقا, وهو ما فسره الرأي العام علي أنه محاولة أخري لفرض الوصاية عليه, فخرج منتفضا علي تلك الوصاية غير عابئ بمن يقف معه في الصف أو يلعب معه في الفريق, فالإخوان كانوا قبل أسابيع يلعبون في الفريق الآخر ويقفون جنبا إلي جنب معه في ميدان التحرير, ولم ير أحد في ذلك غضاضة, وغير عابئ بالاتهامات التي تكال له من أنصار لا من قبيل أنه غرر به وأنه يضحي بدماء الشهداء, ومعلنا أنه لا وصاية بعد اليوم علي عموم الشعب من نخبة أو حاكم أو فئة معينة منه. فشكرا للذين قالوا لا وقبلوا نتيجة الاستفتاء علها تكون نافعة.