مازال أتباع وذيول النظام الفاسد البائد يحاولون الإساءة إلي ثورة الشعب في25 يناير, بإلقاء اللوم عليها في مشكلات ستدفع مصر ثمنا باهظا تجاهها, ومن هذه الأقاويل المغلوطة مشكلة مياه النيل والادعاء بأن الاهتمام بالثورة قد أنسانا ملف حوض النيل! ولأن الدكتور محمود منصور أستاذ الاقتصاد الزراعي وأمين عام الاتحاد التعاون العربي ينحاز دائما إلي قضايا الفقراء, وهو خبير في شئون التنمية بمنظمة العمل الدولية لسنوات عديدة ومنظومة المياه تحتل مكانا بارزا في اهتماماته, فقد كان الحوار معه حول تحديات المياه له مذاق خاص, حيث يشترط لإحداث تنمية حقيقية أن يتوافر لها عنصر الاستقلال الوطني الاقتصادي, بالإضافة إلي أنه أحد مؤسسي مجموعة الأمل التي تضع في أولوياتها مكافحة الفقر, وتاليا نص الحوار: في البداية سألته: ما هو تقويمكم لما وصل إليه الحال في تعاملنا مع مع ملف النيل؟ حينما يأتي وقت الحساب فإن التهديد الجاد الذي أصبح يواجه مصر في الحصول علي حقوقها في مياه النيل سوف يكون أخطر التهم التي ستوجه للنظام البائد, فلقد ترتب علي سياساته التي ليس هنا مجال الخوض في تفاصيلها, أن أصبحنا الآن مواجهين بموقف صعب لا نملك حياله أي إمكان للتصرف, وحتي الفرصة الأخيرة التي أتيحت لمصر لتدارك ما ضاع منها من فرص أهدرها النظام البائد. لفقد كانت هناك سنوات أمامنا تفصل بين بدء النظام الإثيوبي لتحركه من أجل الانقضاض علي المصالح المصرية وحتي توقيع دولة بوروندي علي الاتفاقية الأخيرة وجعلها أقرب للسريان, ضاعت هذه السنوات دون أن يفعل النظام شيئا مجديا سوي التصاريح المطمئنة التي أطلقها المسئولون خلال هذه السنوات, وأنه لا توجد أخطار تهدد مصالحنا في أعالي النيل, ولن يفيد البكاء علي اللبن المسكوب, برغم أن الآثار حارقة, أو سوف تكون حارقة, من يستطيع الإجابة علي سؤال: ما أثر نقص حصة مصر من المياه بمقدار الثلث؟(17) مليار م2, وهو الحجم الذي سيترتب علي إقامة السدود الإثيوبية, وما أثر ذلك علي بحيرة السد العالي, بل علي السد العالي نفسه وما ينتج من كهرباء؟ ما الأثر علي كل المشروعات العملاقة من قناطر وخزانات بنيناها علي مر العصور حتي نؤمن لمصرنا نقطة الماء الضرورية للحياة؟ والإجابة ليس أمامنا إلا إعمال الفكر بحثا عن سبل تكون كفيلة بتقليل المخاطر, والحفاظ علي الحياة علي ضفتي النهر. سألته: ما هي الخطوات التي يمكن معها تقليل الخسائر؟ أولا الضغط علي مصادر التمويل الدولية والعربية منظمات أو دول من أجل وقف التمويل للمشروعات التي تزمع دول المنابع تنفيذها بإرادة منفردة أو ربطه بمراعاة المصالح المصرية, ولعل موقف مصر وأوضاعها الحالية بعد الثورة تسهم في مساندة الموقف المصري تجاه هذه الدول. فطبقا لما نشر حديثا في الصحافة الإثيوبية حول البدء في تصميم وإنشاء ما يسمي سد بالبوردر الذي يحتجز نحو 17 مليار م3 من مياه النيل الأزرق, فإن مثل هذا الإنشاء سوف يلحق بمصر أضرارا مؤكدة وواضحة, وتعتبر الدول والهيئات التي ستساعد في تمويل إقامته مشاركة في الإضرار بمصالح مصر وأمنها المائي. إن هناك جهودا غير عادية تنتظر الدبلوماسية المصرية وغيرها من أجهزة الدول لتوضيح تلك المخاطر أمام الممولين ودعوتهم بكل السبل للإقلاع عن هذا التمويل. إن الخطاب المصري في هذا الصدد لابد أن يكون واضحا في أن هذه السدود تمثل اعتداء مباشرا علي أمن مصر القومي, فهي تستقطع جزءا مهما من مواردها الطبيعية, وأن هذا سوف يضطر مصر للدفاع عن مواردها بكل السبل, وما يعنيه ذلك من تهديد للسلم الإقليمي في هذه المنطقة من العالم, ونحن نعلم أن النظام المخلوع قد أضاع معظم الأوراق التي كان يمكن لمصر استخدامها في تحركها مع المجتمع الدولي, لكن ليس هناك من سبيل سوي المحاولة. ويرتبط ذلك المحور بتوجهاتنا نحو الدولة الناشئة في جنوب السودان, وضرورة تبني سياسات تدعم التعاون, برغم كل شيء مع هذه الدولة والعودة إلي استكمال مشروعات الري المخطط لها منذ القدم في هذه المناطق, كسد جونجلي, وما يمكن أن يوفره من كميات من المياه. إن السياسات المصرية إزاء دولتي السودان يجب أن تكون ذات منطلقات جديدة تدعم الوحدة والتعاون والمصيرالمشترك بين الدول الثلاث. وماذا علي المستوي المحلي؟ علي المستوي المحلي هناك مجموعة أو حزمة من الجهود يجب أن نبدأ فيها علي الفور دون انتظار: تلك المتعلقة بضرورة ترشيد استخدام المياه, والتحول إلي طرق الري الأكثر رشادة والموفرة للمياه, والأبحاث هنا في هذا الصدد لي مراكز البحوث المصرية بلا نهاية, وتنتظر فقط الإرادة السياسية التي تمتد إليها وتضع الخطط لإتمام تنفيذها, ونحن نعلم أن هناك جهودا في هذا الصدد لكن تلك الجهود يجب أن تأخذ طابعا أكثر جدية في الوقت الراهن. تطوير نظم إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والصحي, سواء في الاستخدامات الزراعية أو غيرها لتعظيم الاستفادة من هذه المياه بأقصي قدر, وتشير التقديرات إلي إمكان زيادة المتاح من الموارد المائية المصرية بنحو 6 مليارات م3 نتيجة هذه الجهود. الاتجاه وبأقصي طاقة نحو تحلية مياه البحر, ونحن نعلم أن قضية الطاقة سوف تكون حاسمة في هذا المجال, وهذا ما يجعلنا نقول إن حسم موضوع المحطات النووية وتبني برنامج جاد لإنتاج الطاقة البديلة والنظيفة يجب ألا يتأخر كثيرا, فلا وقت للمناورات, ومن حسن الطالع أن الأنباء تفيد بتحقيق اختراق علمي في هذا الصدد يؤدي إلي تخفيض جوهري في تكلفة التحلية. إعادة النظر في نظم حيازة الأراضي الزراعية في مصر, وعدم السماح بترك تلك المساحات القزمية لتكون أساس الإنتاج الزراعي المصري, برغم ما تمثله من تبديد هائل للمياه, يجب أن نلجأ لكل سبل تجميع الإنتاج الزراعي وأن يأخذ هذا الإنتاج طابعا أقرب لمراعاة الوظيف الاجتماعية للملكية, وأن تدعم روابط مستخدمي المياه وغيرها من مختلف الأشكال التعاونية في هذا القطاع. لابد من إعادة النظر في التراكيب المحصولية السائدة حاليا, وربما يكون قد آن الأوان للتخلي عن بعض المحاصيل الشرهة للمياه مثل الموز وقصب السكر, وإلي حد ما الأرز, واستبدالها بمحاصيل قليلة الاستخدام للمياه. تنشيط البحث العلمي الزراعي والمائي, والدفع بنتائج تلك البحوث إلي التطبيق, فمنذ سنوات ونحن نسمع عن التوصل إلي سلالات من بعض المحاصيل قادرة علي تحمل درجة أعلي من الملوحة, عن سلالات قليلة المكث في الأرض الزراعية, وهي التي تقود إلي وفر في المستخدم من مياه الري. مواردنا من المياه الجوفية, فعلي حسب علمنا لا يوجد اتفاق علي حجم هذا المصدر حتي الآن, وإن كانت معظم الدراسات تشير إلي محدودية هذا المورد, بما يفرض علينا تبني سياسات جادة في كيفية التعامل معه, ووضع حد للاستخدامات السفيهة والهدر غير المنطقي في استخدام هذا المورد المحدود. لابد للمصريين أن تشيع بينهم ثقافة جديدة تجاه النيل ومياهه, وأدبيات التعامل في هذا الشأن, فهناك العديد من العادات والتقاليد المشوبة بالإهمال الواضح والمؤدي إلي فقد نوعي وكمي في المياه, وفي هذا المجال ربما يسأل السائل: لماذا يحدث ما يحدث في محطات غسيل السيارات؟ ويطرح الدكتور محمود منصور عددا من التساؤلات التي تؤكد عدم استيعاب المصريين لحجم الكارثة, ومنها لماذا نجد كميات هائلة من المياه تخرج من أبواب العمارات الفارهة في مختلف الأحياء الراقية صباح كل جمعة وما هو مستقبل البحيرات وملاعب الجولف وحمامات السباحة الخاصة التي انتشرت في الأحياء الراقية في السنوات الأخيرة؟ إن الإجابة علي كل هذه التساؤلات وغيرها ربما تضعنا أمام تطور إيجابي في الثقافة الوطنية تجاه هذا المورد النادر الذي صار مهددا أكثر من أي وقت مضي. وتفيد نتائج دراستنا حول مستقبل الزراعة والغذاء في مصر 2020 ( التي أجريت ضمن مشروع مصر2020) أنه يمكن الاعتماد علي التقديرات الآتية لزيادة الموارد المائية خلال السنوات المقبلة إذا ما أعدنا النظر في مختلف المحاور السابق الإشارة إليها, وعملنا بجد علي تحقيق إنجازات جادة في كلا منها: ترشيد استخدام مياه النيل وإعادة استخدامها (23.5 مليار م3) المياه الجوفية والجوفية العميقة ( 6 مليارات م3) الصرف الصحي( ملياري م3) وفي النهاية أدعو لحوار وطني جاد تسهم فيه جميع الأطراف للتوصل لاستراتيجية وطنية للتعامل مع هذا الموضوع الأهم في حياتنا.