من الواضح أننا نحن المصريين عقدنا العزم في ميدان التحرير بالقاهرة, وميدان المنشية بالإسكندرية, وفي شوارع السويس, والإسماعيلية, والعريش, ومرسي مطروح, وطنطا, وشبين الكوم, ودمنهور, والمنصورة, والفيوم, وبني سويف, وأسيوط, وأسوان, والوادي الجديد, في هذه وغيرها من مدن مصر وقراها عقدنا العزم علي أن نخرج من حياة العبودية, التي تخبطنا في أوحالها وظلماتها أكثر من ألفي عام, ونعود أحرارا كما ولدتنا أمهاتنا. وقد علمتنا ثورة الخامس والعشرين من يناير أو ذكرتنا بأن حريتنا مرهونة باجتماعنا, حين نجتمع ونستعيد شعورنا بوحدتنا كأمة, وندرك عندئذ أننا أصحاء أقوياء متلاحمون متساندون نتكلم لغة واحدة, ونغني أغنية واحدة ونتفاهم بدون كلام, ونحقق ما اتفقنا علي تحقيقه, في هذه الحالة يصبح كل منا حرا, ويصبح المصريون كلهم أحرارا, فالحرية بما أنها حق للجميع فهي لا تتحقق إلا بالجميع, أي بالديمقراطية. وفي العصور الماضية التي كانت فيها المجتمعات البشرية أعراقا وأجناسا مختلفة, وطوائف دينية ومذهبية متصارعة, وعصبيات قبلية وعشائرية ضيقة لم تلتئم بعد في أمة واحدة, ولم تقم لها دولة وطنية جامعة في تلك العصور كان الحكم طغيانا صريحا, وكان الرق نظاما سائدا معترفا به في كل المجتمعات. في اليونان القديمة, وفي أثينا ذاتها حيث نشأت الديمقراطية, كانت الحرية من نصيب بعض المواطنين الأثينيين, وكان الباقون عبيدا أرقاء, وكذلك الحال في روما التي ثار فيها العبيد بزعامة سبارتاكوس في القرن الأول قبل الميلاد وسيطروا علي كثير من المقاطعات الايطالية قبل أن يتمكن الحكام الرومان من إخماد ثورتهم وصلب الآلاف منهم في الطرقات, وفي الجزيرة العربية كان القانون السائد في المجتمع هو القانون السائد في الغابة, فالقبائل العربية تعيش علي الغزو, والغالب يستعبد المغلوب ويسبي نساءه, وحتي القرن التاسع عشر لم يكن الأمريكيون قد أصبحوا أمة بعد, حتي بعد أن انتزعوا استقلالهم من الانجليز, وكان الرق نظاما مستقرا في الولاياتالأمريكية لا سيما في الجنوب حتي استطاع ابراهام لنكولن أن يحرر العبيد, فعندئذ فقط سار الأمريكيون في الطريق الذي جعلهم أمة في نهاية المطاف وجعل نظامهم ديمقراطيا, وفي القرن الثامن عشر عندما أصبح الفرنسيون أمة مكتملة ثاروا علي استبداد الملك والكنيسة, وأعلنوا الجمهورية والدستور وحقوق الانسان والمواطن التي جاء فيها ولد الانسان حرا, ويبقي حرا, متساوي الحقوق مع غيره. والذي حدث في هذه المجتمعات حدث في مصر. في العصور الفرعونية عندما توحدت البلاد في دولة وطنية جامعة كان المصريون كلهم أحرارا. ولم يعرف العبودية في مصر القديمة الا الأجانب الذين كانوا يقعون أسري في أيدي المصريين في الحروب التي كانت تشتعل بينهم وبين الشعوب المجاورة. لكن الحال تغير أو انعكس حين فقدت مصر استقلالها في القرون الخمسة السابقة علي ميلاد المسيح, وسقطت في أيدي الغزاة الأجانب الذيم مكنوا لأنفسهم في بلادنا أكثر من ألفي عام كنا فيها رقيق أرض لا عمل لنا إلا أن نزرع ليحصد الغزاة, ولا يحق لنا أن نشارك في حكم بلادنا أو أن نحمل السلاح دفاعا عن أنفسنا. ولأننا فقدنا في تلك العصور استقلالنا وصارت بلادنا ولاية في امبراطوريات الغزاة فقد فقدنا بالتالي رابطتنا الوطنية الجامعة وتحولنا إلي فرق وطوائف دينية مختلفة تتعرض فيها الأقلية للعزلة, وربما تعرضت للاضطهاد من الأغلبية أو من السلطة القائمة, فالرومان يضطهدون المسيحيين المصريين الأوائل, والمسيحيون البيزنطيون يضطهدون المسيحيين المصريين, وهؤلاء يضطهدون من بقي علي الدين المصري القديم. ثم يدخل العرب المسلمون ليجد المصريون أنفسهم مخيرين بين الرضا بحكم الغالب الذي لم يكن دائما متسامحا أو عادلا معهم وبين اعتناق الاسلام وإن لم يحمهم اعتناق الاسلام من عنف الحكام العرب والأتراك الذي اهتموا بجباية الأموال أكثر مما اهتموا بالدين, وعاملوا المصريين جميعا مسيحيين ومسلمين كرعية مغلوبة علي أمرها لا حق لها إلا في الفتات الذي يبقيها علي قيد الحياة تزرع ليحصد الطغاة وتستسلم ليستأثروا بكل شيء. ونحن نعرف أن المصريين ظلوا إلي أوائل القرن العشرين يساقون للعمل سخرة في مشاريع الحكومة, وظلوا يتعرضون للضرب بالسياط, وظلوا ينتسبون لعقائدهم الدينية المختلفة ولا ينتسبون لبلادهم ولا يعتبرون أنفسهم أمة واحدة, حتي استطاعوا في ثورة1919 المجيدة أن يستعيدوا وعيهم الوطني, ويرفعوا شعارهم الجامع, ويقفوا في وجه الطغيان المثلث المتمثل في الأتراك والانجليز والقصر, ويبنوا دولتهم الوطنية من جديد, وينتزعوا الدستور الذي اعترف لهم بأنهم مصدر كل السلطات, وسوي بينهم في الحقوق والواجبات, فلا فرق بين مسلم وغير مسلم, ولا بين رجل وامرأة, ولا بين غني وفقير. ثم إننا نعرف ما حدث بعد ذلك, فقد سقطت البلاد فريسة في أيدي ضباط يوليو الذين قلبوا النظام, وانتهكوا الحقوق, وحكموا البلاد بأجهزة الأمن, وأعادوها إلي ما كانت عليه في أيام الأتراك والمماليك, هذا النظام البوليسي الذي صادر حريات المصريين وبدد ثرواتهم وساقهم من هزيمة إلي أخري أفقدهم اعتزازهم بكرامتهم الانسانية ووحدتهم الوطنية, وحرم عليهم أن ينخرطوا في أي نشاط مدني أو يعبروا عن معاناتهم بأي صورة من صور التعبير الحر فلم يبق لهم مسلمين ومسيحيين إلا النشاط الديني الذي وجدته القوي المحافظة في الداخل والقوي الرجعية والاستعمارية في الخارج فرصة استغلتها في دفع المصريين أو فئات منهم للانغلاق والتشدد والعنف, وهو مناخ ساد في العقود الأربعة الماضية واستفحل, وكانت ثمرته تلك الجماعات الدينية التي توالد بعضها من بعض, الاخوان المسلمون, والسلفيون, والصوفية, بالاضافة طبعا الي من يسمون أنفسهم الأشراف. كأن الشرف محصور فيهم وحدهم, وكأن هناك شرفا أعلي من أن يكون المصري مصريا, فضلا عن المنظمات الارهابية كالجهاد والجماعة الإسلامية. وإذا كانت الجماعات الدينية وأقصد بها جماعات الاسلام السياسي قد استفادت من هذا المناخ وساهمت في صنعه, فقد استفاد منه أيضا النظام السياسي البوليسي الذي كان يبرر بقاءه وعنفه ومصادرته للحريات بسعيه للتضييق علي الارهابيين ومطاردتهم ومحاصرتهم, في الوقت الذي كان فيه الارهابيون يبررون عنفهم وإرهابهم بالعمل علي إسقاط الطغيان الذي سد كل المنافذ, وصادر كل الحريات, وحرم القيام بأي نشاط سلمي. هكذا تتابعت الخسائر وهي كلها خسائر فادحة لا تعوض. خسرنا النظام الديمقراطي الذي يضمن الحرية للجميع فخسر كل منا حريته, وخسر بالتالي شعوره بأنه فرد في جماعة ومواطن في أمة يعتز بالانتماء لها ويستمد منها الأمن والقوة والشعور بالكرامة, وهذا هو الدرس الذي تعلمناه من حكم الطغيان الذي حررتنا منه ثورة الخامس والعشرين من يناير وفتحت أمامنا الطريق الي الديمقراطية, والسؤال الذي يجب أن نطرحه الآن ونجيب عليه بوضوح وصراحة هو: هل نحن مستعدون الآن لبناء نظام ديمقراطي حقيقي يضمن لنا أن نشرع لأنفسنا ونختار حكامنا, ونحاسبهم, ونختار سواهم, ونفكر في كل شأن من شئوننا بحرية, ونعبر عما نراه بحرية؟ لقد استطعنا بالثورة أن نسقط النظام القديم الذي دب فيه الفساد ونخره حتي أصبح آيلا للسقوط, لكن الثورة لا تبني الديمقراطية, الثورة تفتح الطريق إلي الديمقراطية التي تبني بالعقل والحكمة وتوخي المصلحة العامة, وتبني بالأحزاب والبرامج السياسية والقوانين والمؤسسات التي تمثل الأمة كلها وتدافع عن حقوقها ومصالحها, فما الذي نملكه من هذه المواد اللازمة لبناء الديمقراطية؟ لا أستطيع إلا أن أقول إن ما نملكه الآن من هذه المتطلبات لا يكفي, فقد خرجنا من الطغيان مفتقرين للكثير مما يجب لممارسة الديمقراطية ومصابين بالكثير مما يتعارض مع ممارستها. خرجنا من الطغيان مفتقرين لثقافة سياسية ترسخ فينا الشعور بالانتماء لمصر, وتمكننا من المحافظة علي وحدتنا الوطنية, ونعرف بها معني الديمقراطية وحقوق الانسان, ومعني المواطنة وحقوق المواطن وواجباته, ووضع الدين في المجتمع, وعلاقته بالسلطة. وخرجنا من الطغيان مصابين بالتعصب والتطرف وضيق الصدر والانفعال السريع والاستعداد للتصديق وقصر النظر والانشغال بالمصلحة الشخصية والتلكؤ في آداء الخدمة العامة, وهذه كلها أمراض ونقائص تعرقل السعي, وتشجع عناصر الثورة المضادة علي سرقة الثورة وقطع الطريق الي الديمقراطية, وقد رأينا كيف انتهزت فلول النظام الساقط مناخ الثورة لاشاعة الفوضي وتخويف المواطنين وإجبارهم علي أن يختاروا بين الأمن وبين الحرية. ورأينا كيف استغلت الجماعات الدينية صلاة الجمعة لتتصدر المشهد في ميدان التحرير وتوحي بأنها هي التي تقود الثوار وتوجههم, ثم رأينا كيف رفعت هذه الجماعات شعارات الدولة الدينية لتقطع الطريق الي الدولة الديمقراطية. فنحن نعرف أن الديمقراطية والدولة الدينية ضدان لا يجتمعان, لأن الديمقراطية كما نعرف هي النظام الذي يكون فيه المواطنون سادة أنفسهم, يفكرون لأنفسهم ويشرعون لأنفسهم, ويضعون قوانينهم, ويختارون حكامهم ويحاسبونهم, ويغيرونهم كما يشاءون, وهذه حقوق لا وجود لها في الدولة الدينية التي تستمد فيها القوانين من الكتب الدينية وما علي المواطنين الا أن يسمعوا ويطيعوا, لأن الحكام في الدولة الدينية هم ظلال الله علي الأرض كما يزعمون يطبقون أحكامه وينفذون ما أمر به كما يدعون. وهم بهذا الادعاء طغاة يغتصبون السلطة وينفردون بها دون رقيب أو حسيب, وكيف يمكن لمن ينكرون علي النساء المسلمات وعلي غير المسلمين من الرجال والنساء أن يمارسوا الحقوق التي تقررها الديمقراطية لكل المواطنين دون تمييز, كيف يمكن لهؤلاء ان يكونوا ديمقراطيين؟ ولقد عجبت حين رأيت أن بعض الذين ذهبوا إلي أطفيح ليطفئوا الفتنة الطائفية لم يفعلوا إلا أن زادوها اشتعالا, وإلا فما معني أن يعلن أحدهم في التليفزيون أنه وجدت في الكنيسة التي تعرضت للعدوان أوراق تدل علي أن بعض القساوسة كانوا يمارسون السحر علي بعض المسلمين؟ وقد سئل هذا الشيخ عن رأيه في المكان الذي يمكن ان يعاد فيه بناء الكنيسة فطلب أن يترك أياما للاستخارة, كأن الكنيسة لم يكن لها مكان معروف من قبل, وكأن قوي خفية هي التي يجب الرجوع اليها لمعرفة مكان الكنيسة, وكيف يحق لهذا الشيخ أن يقول للمسيحيين المعتدي عليهم في أطفيح أنه سيحتكم في قضيتهم لشرع الله, مع أن القضية ليست زواجا ولا طلاقا ولا نفقة حتي يحتكم فيها للشرع, وإنما هي جريمة لا يحتكم فيها إلا للقانون الوضعي الذي يخضع له المصريون المسلمون والمسيحيون علي السواء. فإذا كان هؤلاء هم الذين يتصدرون العمل العام الآن فكيف نثق في قدرتنا علي بناء الديمقراطية؟ الجماعات الدينية منظمة وواثقة من نفسها, والارهابيون المفرج عنهم يعاملون كأنهم أبطال مقاومة, والأحزاب السياسية التي تؤمن بالديمقراطية ضعيفة, وثلاثون في المائة ممن لهم حق التصويت أميون أمية أبجدية, والأمية الثقافية منتشرة كذلك, وحاجة الفقراء وهم كثيرون للخبز والأمن قد تدفعهم للتضحية بالحرية والرضا بالطغيان إذا ضمن لهم هذه الضروريات أو وعدهم بذلك. كيف لنا مع هذه المعطيات أن نطمئن الي اننا نسير في الطريق الي الديمقراطية؟ نعم, لقد عقدنا العزم علي أن نخرج من حياة العبودية ونعود أحرارا كما ولدتنا أمهاتنا, لكن الطريق مليء بالمخاوف والعقبات, وهذه ليست دعوة للنكوص, وإنما هي دعوة لليقظة الكاملة, والاستنفار العام, والتصدي لمن يريدون أن يسرقوا الثورة ويعودوا بنا للطغيان! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي