كان شاهدا علي ثقوب ضمير المجتمع المصري قبل الثورة, وكتب عن تأثير القهر وانعدام العدالة والديمقراطية, في تشريحه للشخصية المصرية وما وصلت إليه أحوالنا. إنه الدكتور أحمد عكاشة رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي، لجأنا إليه لرسم ملامح هذه المرحلة النفسية الدقيقة التي يعيشها المجتمع المصري بعد25 يناير وليفسر كثيرا من مظاهر القلق والإحباط والخوف من المستقبل. وفي حواره مع شباب التحرير, تدفقت كلماته تعبيرا عن فخره بثورة مصر وخوفه عليها ومؤكدا علي ضرورة الكف عن محاكمة بعضنا البعض والنظر إلي المستقبل لبناء مصر, فإلي نص الحوار. كيف تري المشهد الآن بعد الثورة؟ ماذا حدث للمصريين؟ لابد أن أبدأ قبل25 يناير, وما تركه الإحباط واليأس والقمع من تأثير علي الشخصية المصرية التي أصيبت بالا مبالاة, والتمركز حول الذات, وإنعدام احساس المواطن بقيمته, والفجوة الكبيرة بينه وبين الحكومة. وحين جاءت الثورة بواسطة نخبة من الشباب المتعلم, المنفتح علي العالم, صاحب المعرفة العميقة, ليطالب بالعدالة وتغيير السلطة و الشفافية, أذهلت العالم. فهؤلاء لم يقوموا بانقلاب عسكري, ولم يهدفوا إلي تحقيق مصالح شخصية ولم يريقوا الدماء إنما هم الذين تعرضوا للقتل والإصابة, من أجل حرية الوطن. أحدثت الثورة تغييرا كبيرا في اخلاقيات المصري الذي أصبح منتميا, لديه عزة, ورغبة في التعاون وتحمل المسئولية, فالمصريون صمدوا أكثر من40 يوما بدون شرطة وبدون تطبيق للقانون, فتعاونوا للحماية, صحيح حدثت بعض الحوادث الإجرامية والتعديات لكن عددها لا يوازي أبدا عدم وجود الشرطة. ففي أي مكان في العالم, عندما تنقطع الكهرباء فيه تهاجم المحال وتحدث تعديات كبيرة. لكن اليوم بدأت تظهر كثيرا من السلوكيات السلبية: مثل التخوين وخلق الاضطرابات الفئوية؟ حين طالب الشباب بالتغيير والتنحي, وبدأ النظام في السقوط واحدا تلو الآخر, أصبنا بنوع من النشوة والسعادة والكرامة, لكن لم يصاحبها عملية بناء, فما يحدث الأن هو عمليات هدم. ولقد آن الأوان أن نأخذ من الماضي عبرة, لنتكلم عن الحاضر والمستقبل وعن تصور لبناء مصر. فأنا مستخسر هذه الثورة الشريفة. صحيح انكسر حاجز الخوف, لكن علينا أن نترك القضاء ليحاكم المذنبين, ولا نحكم علي كل من عينه النظام السابق بأنه خائن, لأن هناك أناس شرفاء. فالمجلس الأعلي للقوات المسلحة عينه مبارك فهل نتهمه بالخيانة؟ لقد آن أوان عدم الخلط, وأن نترك الشماته والانتقام, فأجمل ما في الخلق هو التسامح والوسطية. فلماذا لا نتحلي بهذه الأخلاق, وأن يحترم الصغير منا الكبير والعكس وألا يتطاول أحدهما علي الأخر, من هنا تنهض الحضارات. لقد طالب الثوار بالحوار, والتغيير والمساءلة ونحن قد جربنا الديكتاتورية, فلا تحاولوا الآن خلق مئات من الديكتاتوريين, بدلا من دكتاتور واحد. فيجب أن تسود القدرة علي الحوار والتسامح والوسطية, لنتقدم إلي الأمام. وما رأيك في المطالب الفئوية التي تتعجل جني ثمار الثورة؟ لقد عاني المصريون كثيرا في ظل الحكم الفرعوني المستبد, قهر واستبداد في ظل نظام كان يستعمر المصريين ويستحمرهم, لذا فالجميع يستعجل الآن جني ثمار الحرية خاصة بعد أن انكسر حاجز الخوف. ولا ننسي أن40% من الشعب المصري أميون, و30% من محدودي الثقافة, واعتادوا لسنوات طويلة التمركز حول مشاكلهم الشخصية, علي حساب التطلعات العامة. وهؤلاء فكرهم مختلف عن فكر الثورة. ناس عاشت30 سنة في ظل الخوف ووجدوا أخيرا فرصتهم ليعبروا عن أنفسهم, لكنهم تمادوا في ذلك فهم يفكرون أن المليارات التي نهبت ويتم الإعلان عنها كل يوم, إذا ما وزعت علي85 مليون مواطن, فإن نصيب كل منهم سيكون كبيرا, لكن الأمور لا تقاس بهذا الشكل. فلا يجب أن نتعجل الإشباع الفوري, فهو سلوك غير حضاري علي النخبة الواعية مواجهته وعليها أيضا أن تقود المجتمع في سبيل تحقيق أهداف الثورة, حتي لا تحدث فوضي, وليعي الجميع أنها يمكن أن تؤدي إلي انهيار مصر. ما الوسائل النفسية التي تستخدمها الثورة المضادة وما سبل التعامل معها؟ أنا لا أحب تعبير الثورة المضادة, فما يحدث لا يستحق أن يسمي ثورة, هم مناهضون يبذلون المحاولات والحركات المضادة لإجهاض الثورة الشريفة. فالنظام السابق وأعوانه, وفلول الحزب الوطني, كما نقرأ في الصحف, تقوم بحركات منتظمة ومستمرة للنيل من ثورة الشعب, فمن معركة الجمل وفتح السجون, والانفلات الأمني إلي محاولات إثارة الفتنة وأعمال البلطجة وهو ما يثير مشاعر القلق, والخوف والإحباط لدي الكثيرين. لكنني أؤكد أن معركة هؤلاء خاسرة, أمام وعي المصريين, وليس أمامهم سوي الإنتحار الذاتي أو التوبة والمساعدة في البناء. فالجينات المصرية تؤكد تفوقهم منذ آلاف السنين في ذات الوقت الذي كانت أوروبا قبائل متناحرة. وسوف اذكر نتيجة دراسة قامت بها باحثة أمريكية في علم المصريات, قامت بتحليل المومياء المصرية, وخرجت نتيجة وهي أن نسبة التوافق بين جينات الشعب المصري تصل إلي97%, فوراثيا نحن شعب واحد, مسلمون وأقباط, وهو مايدل علي أن الفتنة الطائفية ماهي إلا مناورة سياسية انتهازية, لها أغراض وأجندة خاصة. فالوحدة الوطنية وراثية جنيا. والجينات التي انتجت علي مر التاريخ قادة وعظماء, كانت مكبوتة عن طريق أجهزة قمع وحين تخلصت من هذا القهر, بدأت تتجلي قدراتها فمن هم الثوار الذين قاموا بتنظيف أماكنهم كما حدث في الثورة المصرية. طالب شباب الفيس بوك بتولي د.عكاشة وزارة الداخلية, ما رأيك وما لسبيل إلي ازالة الفجوة النفسية بين الشعب والشرطة؟ رد ضاحكا: سبب هذا الطلب هو حالة انعدام الثقة بين الشرطة والشعب, ففكر الشباب في طبيب نفسي لحل الأزمة. فالشرطة خائفة من انتقام الشعب, والشعب لايثق فيها, دائرة مفرغة يجب أن تنتهي. فالتجنب في الطب النفس يزيد المرض, والمواجهة رغم المعاناة تشفيه. واليوم الشرطة تعلمت الدرس, وزير الداخلية يعتذر ويتفاعل مع الناس. ويتبقي أن تعود العلاقة طبيعية باحترام كل من الطرفين للقانون. هل تقبل أن تكون وزيرا للداخلية؟ لا أوافق علي أن يتقلد من هو فوق ال55 عاما أي منصب, لأن الابداع مرتبط بالمرونة في النسيج العصبي, أما كبار السن فيمكنهم إعطاء الخبرة والنصيحة, لكن يجب أن يتولي الشباب المناصب في المرحلة القادمة لبناء مصر. قبل الثورة, كتبت ثقوب في الضمير وتشريح الشخصية المصرية, والآن لو أصدر د. عكاشة كتاب ماذا يسميه؟ كيف تصنع الكرامة. هل الديكتاتورية صفة جينية أم مكتسبة؟ من يستمر في السلطة لفترة طويلة تحدث له تغيرات في الشخصية اذكر إحدي التجارب التي أجريت في كاليفورينا, طلبوا من مجموعة من الأشخاص أن يمثلوا دور المساجين مقابل مبالغ من المال, ومن آخرين أن يقوموا بدور السجانين, وبعد حوالي أسبوع, لم يستطع المساجين تحمل القهر والذل وقمع الحرية وطلبوا توقف التجربة بينما استمتع الآخرون بالسلطة المطلقة. فهذا النوع من السلطة وتأليه الحاكم يصاحبه لذة أفيونية, ففي مخ كل منا مستقبلات أفيونية تمنح لذة في الحياة مثل من يتعاطي الأفيون والهيروين, والاستغناء عنها, يكون له نفس أعراض انسحاب الأفيون من الجسم. فهي سلطة لا يمكن التنازل عنها وهو ما حدث مع الرئيس مبارك, فلقد كان ضرب من الوهم تخيل استجابته لمطالب الشعب بالتنحي, فهو لا يمكنه الإستغناء عن السلطة ولكن يجبر علي ذلك. كيف تري المستقبل؟ الثورة المصرية أثرت علي جميع دول العالم وأنا علي يقين أن خلال لسنوات القادمة سوف تسقط جميع الأنظمة القمعية العربية. لكن أن الأوان لبناء مصر. ولا نهضة بدون التعليم والتكنولوجيا وهو ما يحدث في امريكا حيث رصد أوباما ملايين الدولارات لتأهيل المعلمين في مجال العلوم وتكنولوجيا الاتصالات, وكذلك دول مثل كوريا الجنوبية وماليزيا, والهند وسنغافورا التي تستثمر في التعليم, فنحن شعب يبدع إذا ما تم توفير البيئة العلمية السليمة والصحية له. هل أنت متفائل؟ نعم لأن المصري رفع رأسه واستعاد كرامته, والمعدن والجينات المصرية التي أحدثت ثورة أدهشت العالم, يمكن أن تتحمل لشهور أخري قادمة حتي تتم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية, ووقتها سينعم الشباب بمصر الحديثة. فلا عودة للماضي ولو بمحاولات اثارة الفوضي والفتن, التي بدأ الجيش التعامل معها بشدة وحسم شديدين.