إذا جاز اختزال الأحداث التونسية المتتالية التي أدت في نهاية المطاف الي عزل الرئيس بن علي في أنها ثورة بائع خضراوات متجول حرق نفسه, فمن الممكن أيضا اختزال التطورات الساخنة والمتلاحقة التي تعيشها مصر حاليا في أنها ثورة فيس بوك. , ولكن الشيء المؤكد أن الاختزالين ليسا في محلهما ويؤديان الي مخرجات تحليلية خاطئة, وليكن التركيز في السطور التالية علي الحالة المصرية لأهميتها الشديدة, ولكونها أكثر نضجا وأشد سخونة وأعمق تأثيرا. وبداية تجدر الإشارة الي أن الإنترنت والفيس بوك والتويتر واليوتيوب ومحركات البحث مثل جوجل وأخواتها, كلها وسائل ناقلة مثلها تماما مثل وسائل الإعلام النمطية والتقليدية مثل التليفزيون والمسرح والسينما والكتاب والصحافة بمختلف أشكالها, وإذا كانت الوسائل الأخيرة متوارثة منذ عشرات السنين, فإن الوسائل الجديدة هي وليدة هذا العصر, وتصنع عالما جديدا تحول فيه المواطن العادي الي لاعب أساسي في عالم الإعلام ونقل المعلومات, فظهرت علي يديه صحافة المدونات وصحافة الناس وصحافة الوسائط المتعددة والتراسلات التي لاتعرف الرقابة. ولكن تبقي ثورة الكمبيوتر محصورة في أنها وسيلة ناقلة مثل وسائل الإعلام الأخري, والوسائل بشكل عام ليس في مقدورها ولا استطاعتها أن تصنع ثورة, وإن كان من الممكن أن تساعد علي لعب دور فيها أو حتي تأجيجها, فالثورات تصنعها مرتكزات علي أرض الواقع, قد تكون مرتكزات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو مجتمعية أو كلها معا فتصنع ثورة مكتملة وهو ما يحدث في مصر الآن, فليس بمقدور الفيس بوك أو الشبكة العنكبوتية صنع ثورة ما لم تكن الظروف القائمة حبلي بكل مقومات الثورة, بدليل أن الدول الغربية والديموقراطيات العالمية أيا كان موقعها لا تشهد يوميا ثورة فيس بوك بفعل وسائل الاتصال الحديثة, لكونها نظما مستقرة, أما في الحالة المصرية فيمكن تشبيهها بلعبة الصور المتقاطعة. البازلز تمثل اتصالات الفيس بوك فيها القطعة الأخيرة لتكتمل ملامح الصورة الثورية الراهنة, فالأوضاع السياسية القمعية والشمولية والاقتصاد المتدهور وحالة الفساد التي أزكمت أنوف الجميع وتردي الحالة المعيشية بتزايد الفقر وتركز الثروة في أيدي قلة محدودة علي غرار مجتمع ال2/1% قبيل ثورة يوليو2591 وأيضا انهيار الخدمات الصحية والعلاجية وتدهور مستوي التعليم والبطالة, وتبني حرية التعبير في الصحافة والإعلام بمنطق حرية ضرب الرؤوس في الحيط ثم أخيرا تزوير الانتخابات واستئصال المعارضة, كلها عوامل ولدت الثورة الحقيقية لأنها أسباب واقعية قائمة علي الأرض أشعلت فتيل الانفجار من خلال وسائل الاتصال الحديثة. وإذا كان من الطبيعي أن تكون الشرارة المفجرة للثورة في25 يناير2011 عمودها شباب الأمة الرائع والمنفتح علي العصر الحديث فذلك أمر طبيعي لكونه أشد التصاقا بروح الحداثة والتطور, وهي علي أية حال ليست الثورة الشبابية أو الانتفاضة الشبابية الأولي علي مستوي مصر والعالم, فهناك انتفاضة الشباب المصري عام1968 عقب هزيمة يونيو1967, وهناك أيضا ثورة الشباب الفرنسي في العام نفسه وأدت الي عزل الزعيم الفرنسي الأسطوري شارل ديجول, وبرغم ذلك فإن شباب25 يناير لم يكن وحده في الميدان, فلا كل الشباب خرجوا الي الشوارع ولا كل الشيوخ بقوا في المنازل, وكان هناك في بدايات الحركة الثورية من هم فوق الأربعين وآخرون فوق الخمسين من أعمارهم, ونعني بذلك أن الثورة في يومها الأول تحولت من ثورة شبابية الي ثورة مجتمعية تضم كل الأطياف والتوجهات السياسية, وذلك طبيعي لأن مقدمات الثورة كانت قائمة وما حدث في هذا اليوم هو عملية اكتمال أو انضاج للثورة. فمن غير الطبيعي أن ننكر المشاهد الثورية التي بدأت في مصر مع بدايات الألفية الثالثة عام2000 وما تلاه خاصة ظهور حركة كفاية علي الساحة السياسية وأفكارها الجديدة المتمثلة في رفض التمديد والتوريث ودعوتها لمناهضة الفساد والقمع السياسي والأمني, وكثيرا ما تعرض أعضاؤها للتنكيل, واذا كانت تلك انتفاضة سياسية ملحوظة مثلتها حركة كفاية, فإن هناك ثورات عمالية وحركات اجتماعية غير مسبوقة شهدتها مصر في تلك الفترة وكان ذروتها ثورة المحلة العالمية عام2008 وزلزلت النظام ووقتها اكتفي أحمد نظيف رئيس الوزراء بمعالجة الأزمة بنصف شهر مكافأة من الراتب الأساسي, وتحمس لعمال شركة الغزل فمنحهم شهرا كاملا, ولكن ذلك لم يخمد نيران الاضطرابات العمالية, فظهرت حركات احتجاجية من عمال شركات آمونسيتو وعمر افندي وغيرها. وهناك أيضا انتفاضة الموظفين ممثلة في احتجاجات واضطرابات موظفي الضريبة العقارية وموظفي مجلس الوزراء وخبراء وزارة العدل, ثم ظهرت انتفاضات الفقراء في أحداث الدويقة وقطارات الصعيد وكفر الدوار والعياط ثم غرق العبارة السلام98, ولا ننسي انتفاضة القضاء الشهيرة التي قادها نادي القضاة ثم الاحتجاجات الصارخة علي تزوير الانتخابات الأخيرة بشكل فج, ويضاف إلي ذلك ثورة الأحكام القضائية وتقارير الجهاز المركزي للمحاسبات التي فضحت الفساد المؤسسي في الدولة, وكان أهمها وأخطرها عقد مدينتي وقرية توت آمون.. إلخ. وبذلك اكتملت مقومات الثورة وفجرها الشباب يوم25 أبريل ومعه فئات أخري متنوعة, وكان من الطبيعي قيامها بعد وصول المجتمع إلي هذه الحالة المتردية, لقد أسهمت وسائل الاتصال الحديثة في تأجيجها, ولكنها ليست الصانعة لها, فالثورات الفرنسية في القرن الثامن عشر والثورة الروسية في القرن العشرين, ومعها الثورة المصرية عام1952 والإيرانية عام1979 كلها قامت بدون فيس بوك أو تويتر أو يوتيوب أو حتي جهاز كمبيوتر, لأنها ارتكزت علي أسباب حقيقية علي أرض الواقع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا كما سبق الذكر, أما الشباب فهو دائما عمود الثورات والإصلاح والتغيير, وتكفي الإشارة إلي أن الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة23 يوليو1952 كانت أعمارهم تتراوح بين الثلاثين والخامسة والثلاثين من العمر, وقاموا بثورة غيرت وجه العالم بدون فيس بوك أو شبكة عنقودية, ولكنها روح الشباب الطامح التي يجب أخذها في الاعتبار بكل جدية بغض النظر عن الوسائط الإعلامية. المزيد من مقالات عماد عريان