من الظواهر الثقافية اللافتة اليوم كثرة خروج بعض الفضائيات علينا ببرامج مخصصة للافتاء الديني, أو الإعلان للحصول علي فتوي أو تفسير أحلام دينية بمقابل مالي. ممثلا في اتصالات تليفونية علي أرقام هاتفية, ويتم نشرها في قنوات عديدة, وهي واحدة من ظواهر كثيرة أخري تتشابه في كونها تمثل لونا من ألوان التجارة الدينية المعاصرة, وتفتح بابا لأسئلة كثيرة في موضوع التربح بالدين واستخدامه أداة للثروة, والشهرة, وليس لأهداف دينية نبيلة كما هو المفترض أو المعلن عنه ظاهريا, واستغلالا لعواطف العامة من الناس البسطاء التي يمكن تجييشها بسهولة, ليس في شأن الفتاوي فقط, إنما في موضوعات ترفع شعارات الدين ظاهريا, وخلفها أغراض سياسية ومالية, ولأغراض تثبيت النفوذ وتحقيق بعض السلطة بامتلاك شعبية جماهيرية. تداعت هذه الظواهر, المتاجرة بالدين, إلي ذهني وأنا أقرأ في رواية عزازيل للكاتب يوسف زيدان, التي أثارت العديد من التساؤلات الخاصة بتاريخ استخدام الأديان والمقدسات في السياسة في مراحل التاريخ البشري. ففي أحد مشاهد الرواية مشهد دموي تتعرض فيه هيباتيا( ولدت في الاسكندرية نحو عام380 واغتيلت في مارس415. وكانت عالمة مرموقة في الرياضيات والمنطق والفلك), للقتل علي يد بعض الغوغاء من المتشددين المسيحيين, حيث تم قطع طريق عربتها وهي في طريقها إلي منزلها وألقوها أرضا, حيث عذبت وسحلت وقتلت بوحشية بالرغم من طلبها للرحمة. لقد مارس الغوغاء من أتباع رجال الدين المتنفذين, في هذا المشهد الروائي المعبر, ألوانا وحشية من الحقد والتنكيل التي سبقت قتلهم لإنسانة حرقا وهي حية, أيا كان الخلاف معها, بل وعالمة مرموقة, بتحريض من سلطة دينية كانت تري في التفكير العقلي والعلم خطرا عليها وعلي سلطتها علي الناس, دون أن يعلم, أي من هؤلاء الذين تدافعوا لقتلها وتمزيقها ثم حرقها, شيئا من علمها أو طبيعة الأفكار التي كانت تنشرها. إن الكاتب هنا, قد استعاد ذلك التاريخ البعيد بمشاهده الأصولية الدموية, ليذكرنا بأن التاريخ يعيد نفسه, بشكل أو بآخر, كأنه يضع يديه ويشير إلي شواهد التاريخ التي نري آثارها الممتدة حتي يومنا هذا في تاريخنا المعاصر. فهذا المشهد الدموي العنيف, بإمكانه أن يستدعي أحداثا معاصرة مثيلة عديدة لعلنا مازلنا نتذكر ونري الكثير منها, وبينها شواهد عديدة, منها علي سبيل المثال واقعة تعرض الروائي نجيب محفوظ للطعن بسكين بيد فتي لم يقرأ حرفا للرجل, أو لغيره, وإنما قيل له إن الرجل كافر, فشجعه ذلك علي أن يحاول قتله, وقبله نجحت عملية قتل الكاتب المصري فرج فودة الذي أصدرت زعامات دينية متطرفة فتوي بقتله فقتل! وكذلك العديد من مشاهد الدماء والقتل التي حرضت عليها جماعات متطرفة دينيا علي امتداد العالمين العربي والإسلامي, في أرجاء مختلفة من العالم, وراح ضحيتها آلاف من أرواح المسلمين وغير المسلمين الأبرياء, لدعاوي مشابهة. وأري أن الكاتب يوسف زيدان في تتبعه لهذه الواقعة التاريخية وغيرها مما حفلت به الرواية من أحداث لم يكن المقصود منه تتبع تاريخ الكنيسة القبطية في مصر, بقدر ما قصد منه تمثيل فكرة التشدد الديني, والعنف الذي اقترفته جماعات بشرية تجاه بعضها بعضا باسم الدين, وبعيدا عن الأفكار والقيم الانسانية التي جاء بها الرسل وكتبهم السماوية, والإشارة لكونها ظاهرة تاريخية لم تقتصر علي دين بعينه أو طائفة في حد ذاتها. إن هذا اليقين الذي يدعي البعض امتلاكه, كما تشير الرواية, أدي إلي تأسيس سلطة رجال الدين, ولا يبدو الدافع الحقيقي منها دينيا وروحيا, بقدر ما يبدو دافعا لامتلاك السلطة, بالسيطرة والتسلط علي عقول الجمهور للوصول إلي ما يحقق زيادة نفوذ هذه السلطة, التي عادة ما يكون الهدف منها سلطة دنيوية خالصة, سلطة سياسية وليست دينية, سلطة تتحالف مع الحاكم الإمبراطور ضد مخالفيها من دينها وعقيدتها. وخلال تقلبات السياسة وتداول الدول تراجعت قيم الدين, وسادت سلطة رجل الدين, وهو المنصب الذي لم يعرفه الإسلام في تاريخه المشرق, لا في العصر النبوي ولا في عصور خلفائه, إنما أنشيء هذا المنصب( رجل الدين) عندما تسلط الحكام علي المحكومين, فاحتاجوا إلي الكهنة لترويض الناس لسلطانهم. وأصبح رجل الدين رجلا لا يأتيه الباطل, وأنه صاحب الحق والحقيقة, لا تجوز مراجعته أو مخالفته, وهو لا يتسامح مع من يختلف مع رأيه, ويبادر بتكفيره, وإذا تسامح فإن دلالات هذا التسامح لا تتجاوز أنه سيوقف الأذي عمن يخالفه الرأي. وهناك شواهد عديدة لهذا النموذج الجديد لسلطة رجل الدين في عالمنا المعاصر ممن عرفوا بشيوخ التكفير, الذين لم نسمع أنهم يهتمون إلا بتكفير الأفراد من الكتاب والمثقفين والفنانين كأنهم هم فقط ملاك الحقيقة ومفاتيح الدين والغفران, لا يحاورون ويجادلون من يختلف معهم في الفهم والتفسير والاجتهاد لكنهم يستخدمون سلطة الحاكم ويده, يضربون بها مخالفيهم ويزيحونهم عن طريقهم بالعنف. وقامت علي أكتاف هؤلاء دول وحكومات تجاوزت في تسلطها أعتي النظم والحكام الذين أسقطوا عن عروشهم باسم الدين نفسه! لذا نري الآن أصحاب الفتاوي, ورجال دين الفضائيات ممن يستثمرون الدين في التكسب, وقد اكتسبوا لونا من القداسة, يتحصنون بها, ويستخدمون الإعلام من أجل إضفاء هالة من النجومية عليهم, وهو ما يرسخ صورتهم المقدسة, كالأبطال والنجوم. ولم يكن الدين الإسلامي يوما مناصرا لصور التقديس التي نراها اليوم, فالرسالات السماوية لم تأت للبشر لكي تخلق رموزا مقدسة, ولم يكن الأنبياء إلا بشرا, مثلهم مثل غيرهم, وإلا لما أرسلوا للناس لهدايتهم. إن رواية عزازيل يجب ألا ننظر إليها كما تصورها البعض علي أنها طعن في تاريخ الكنيسة القبطية في مصر, فهي ليست كتاب تاريخ حتي تحاكم, لكنها رواية تشخص واقعا إنسانيا نعيشه اليوم كما عاشته البشرية في أزمان عابرة وأماكن مختلفة, وما هذا الإقبال الشديد علي الرواية, والإعجاب الواسع بها من أوساط الناس كافة الذين أقبلوا علي قراءتها بدليل عدد مرات طباعتها الكثيرة في فترة زمنية قصيرة إلا دليل علي أنني قرأت فيها, كما قرأ فيها الآخرون, ما يثير الانتباه إلي ما يجري حولنا, وفي زماننا من أفكار وأحداث متشابهة, إن لم تكن متماثلة. وعلينا أن نعتبر مما جري علي غيرنا ونتدارك الأمور, قبل أن يفلت الزمام من اليد. المزيد من مقالات د. سليمان إبراهيم العسكرى