لا أدري كيف أبدأ بالحديث عن الدكتور داهش.. هل أكتب عنه كمفكر ومؤلف لأكثر من مائه عمل أدبي من الشعر والنثر, أم أكتب عنه كرسول للسلام والحب بين الناس بصرف النظر عن ديانتهم وأوطانهم, أم كمصلح اجتماعي يريد أن يري العالم حوله يعيش في سلام وعدالة؟ الواقع أن الدكتور داهش هو كل هذه الأشياء مجتمعة. كانت معرفتي الأولي بالدكتور داهش في الثلاثينيات من القرن العشرين, وكنت في ذلك الوقت تلميذا في المدرسة الثانوية, وكان والدي أستاذا للعلوم, وكان يصحبني دائما إلي منزل صديق له, هو أيضا أستاذ علوم, لكنه من المؤمنين ب تحضير الأرواح. فقد كان يعقد في منزله الذي يقع في الروضة أحد أحياء القاهرة جلسات يحضرها عدد من الأصدقاء, ووسيط كان يتمتع بما يطلقون عليه الجلاء البصري, وفي إحدي تلك الجلسات قدمني والدي إلي شاب في منتصف العشرينيات من عمره, يتسم بالوسامة وبعينين لا تستطيع أن تحدق إليهما أنت طويلا, وتحس, وهو ينظر إليك, أنه يحاول أن يصل إلي قرارة نفسك, وتذكرت أني رأيت صورة هذا الشاب, وهو الدكتور داهش في الجرائد المصرية, وعرفت في تلك المقابلة سر نظرته النافذة. وزارنا الدكتور داهش عدة مرات في منزلنا, وكان هو ووالدي يدخلان في مناقشات حول الروح والخليقة ومصير الإنسان, وفي موضوعات كانت في ذلك الوقت أعلي من قدرتي علي الفهم, وترك الدكتور داهش مصر, ومرت سنوات كثيرة. وفجأة اتصل بي صديق من القاهرة لا أذكر اسمه, وقال إن لديه رسالة من الدكتور داهش, وكنت في تلك الأثناء قد تخصصت في اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي, وكنت أقدم في سياق البرامج الإنجليزية للإذاعة المصرية برنامجا بعنوان تحت سحر مصر, وآخر بعنوان ديوان الشعراء كنت أقدم فيه قصائد عربية حديثة قمت بترجمتها إلي اللغة الإنجليزية, ولعل هذا ما دعا الدكتور داهش, عن طريق الصديق اللبناني, أن يطلب إلي ترجمة أحد كتبه من العربية إلي الإنجليزية. لم يكن وقتي يسمح بالقيام بتلك الترجمة, فاعتذرت, وترك لي الصديق اللبناني مجموعة من مؤلفات الدكتور داهش بدأت بقراءتها, ولكن لابد لي من الاعتراف بأنني لم أستطع أن أقرأها جميعها, وتجدر الإشارة إلي أنها تزيد علي مائة كتاب مازلت أداوم علي قراءتها. قرأت أشعاره في أسرار الآلهة و قيثارة الآلهة, وفيها يستعمل ما يطلق عليه الآن الشعر المنثور, كما قرأت له أشعارا كلاسيكية, لكنها قليلة جدا من مؤلفاته, منها: أيها العصفور غن تبعد الأشجان عني غنني لحنا شجيا وأعده وادن مني أنت عصفور جميل لك صدح سلسبيل غنني آيات حبي في دجي الليل الطويل أيها العصفور حلق وأشد حرا في الفضاء ليتني مثلك أشدو إن قلبي في عناء وكان من الطبيعي أن أقرأ الرسائل المتبادلة بين الدكتور داهش والدكتور محمد حسين هيكل, وهي أكثر من مجرد رسائل عادية, إنها تعكس فلسفة عميقة وشرحا لمفهوم الاضطهاد في عصرنا الحديث. إن ما تعرض له الدكتور داهش علي يد رئيس جمهورية لبنان الأسبق بشارة الخوري بمحاكم التفتيش في العصور الوسطي. وقد بين مؤسس الداهشية في رسائله أسباب ذلك الاضطهاد ومراحله القانونية والتعسفية, ولكنها( أي الرسائل) في الوقت نفسه, تعكس عظمة الدكتور داهش في مقاومته ذلك الاضطهاد واسترداده لحقه بيده. وهناك أيضا كتب تعالج الروحانيات, ومنها ابتهالات خشوعية الذي يضم صلوات الدكتور داهش وأناشيده الروحية التي يتوجه بها إلي الله, إله جميع الأديان التي كان يؤمن بها, وهو يستهل صلواته بأحد عشر ابتهالا اقتبس معناها من مزامير النبي داود, وصاغها بأسلوبه, وفي تلك الصلوات يعترف بالضعف البشري واصطراع الخير والشر في نفسه, ثم يستغفره تعالي ويستنجده في سحق الميول الوضيعة, ومن الأناشيد الروحية ما يناجي فيها المؤلف عالم الروح حيث النقاء والبهاء. وبالإضافة إلي هذا العدد الكبير من المؤلفات الرائعة, فإن الدكتور داهش كان مهتما بالفنون الجميلة بكل أشكالها, وقد استطاع أن يقتني ما يزيد علي2000 عمل فني, وكان أمله أن يستطيع أن ينشيء منها في بيروت متحفا لا يقل شأنا عن المتاحف العالمية, ولكن أمله تحطم حين قامت الحرب الأهلية في لبنان, وصارت بيروت أطلالا بائسة, وقد استطاع الدكتور داهش أن ينقل مقتنياته الفنية إلي الولاياتالمتحدة حيث قام بعض أصدقائه ومريديه بتحقيق حلمه, فأقاموا متحف داهش للفن في شارع من أكبر شوارع نيويورك, وكان علي رأس هؤلاء الأصدقاء السيدة الفاضلة مرفت زاهد وابنتها أميرة, وقد وصف المتحف في إحدي المجلات بأنه صندوق مجوهرات. وقد دخل القائمون علي المتحف في معركة حين أرادوا الانتقال إلي مكان أوسع من المقر الأول, وكان أمامهم عدد من كبار رجال الأعمال, وكان التسابق محاولة جادة وقومية, كانت بمثابة خط الدفاع العربي الأخير, وعلي الرغم من أن المتحف كان الأكثر إيفاء للشروط المطلوبة, وكان في طليعة المؤسسات المتسابقة, وفقا لكلام الصحف, ولاسيما ال نيويورك تايمز, حتي لقد ذهبت إحداها إلي القول إن السباق بين متحف داهش, والمنافس الأقوي هو أشبه ما يكون ب منازلة داود لجليات الجبار علي الرغم من ذلك كله, لم يكسب المتحف المعركة وقد دامت ست سنوات وكسبها متحف آخر مغمور لم يكن أصلا في عداد المؤسسات السابقة, كل ذلك يفيد أن الدول المتقدمة لا تخلو هي أيضا من التمييز العنصري. وليس متحف داهش مقرا للوحات والتماثيل فقط, لكنه أصبح مؤسسة فنية عالمية تلقي فيه المحاضرات, وتنظم المعارض المختلفة للفن, وقد كان لي حظ وشرف إلقاء محاضرة في المتحف عن الاستشراق الحديث, وكان ذلك بمناسبة إقامة معرض الفن الاستشراقي وتأثير مصر ودول شمال إفريقيا علي عدد من الفنانين الأوروبيين, خاصة فناني إنجلترا وفرنسا. وأود أن أدون هنا أن دارا للنشر في نيويورك باسم الدار الداهشية أصدرت وتصدر جميع مؤلفات الدكتور داهش, بالإضافة إلي إصدار كتب بأقلام آخرين, وقد شرفني أنها نشرت لي أحد كتبي بالإنجليزيةplainTalk. وأود في النهاية أن أشارك أصدقاء الدكتور داهش ومريديه في الاحتفال بمرور مائة عام علي ولادته, لقد كان الدكتور داهش عبقريا قل أن تجود بمثله الدنيا.