نظرا لأن الخطاب الديني يعد من أقوي الخطابات وأكثرها سماعا وتأثيرا وقراءة وإيمانا منه بأهمية وخطورة الخطاب الديني في تشكيل عقول الجماهير وتحريكها, دعا الرئيس حسني مبارك في الاحتفال بعيد الشرطة هذا العام إلي تجديد الخطاب الديني ليكون خطابا مستنيرا. ومما لاشك فيه أن العالم العربي صار في هذه الأيام العصيبة أحوج ما يكون إلي هذه الدعوة, فالخطاب الديني من شأنه أن يصنع إما أصدقاء للحضارة أو أعداء لها, وقد حان الوقت لترجمة دعوة الرئيس مبارك وتفعيلها علي أرض الواقع وتحويلها من القول إلي الفعل, وحتي يسهم الخطاب الديني في صناعة أصدقاء للإنسانية والحضارة يجب أن يتسم بالآتي: أولا: يجب أن يؤكد الخطاب الديني مبدأ التنوع الخلاق في المجتمع, وأن يدعو لمبدأ الحوار بين مختلف الطوائف والتيارات, مؤصلا قيم التسامح الاجتماعي التي تؤسس لقبول المغايرة, وحق الاختلاف, وكذلك يجب أن يسهم في إشاعة حقوق المساواة التي ترفض وتنقض كل ألوان التمييز العرقي أو الجنسي أو الديني أو الطائفي أو الاعتقادي. ثانيا: يجب أن يدعم الخطاب الديني ثقافة التسامح واللطف وينبذ ثقافة الإرهاب والعنف, فخطاب العنف التكفيري تتحول كلماته إلي مولدات للعنف الفكري أو المعنوي, وبالتالي فهذا الخطاب يدعو كل من يستمع إليه إلي ترجمة رمزية العنف اللغوي إلي جدية الفعل المادي للإرهاب الذي لا يتردد في إراقة الدماء دون تفرقة بين مذنبين وأبرياء. ثالثا: يجب أن يخلو الخطاب الديني من نبرة التعصب حيث إن التعصب بالكلام هو أولي درجات التعصب والإيمان المبني علي التعصب هو الذي يفضي إلي جميع أشكال التمييز الديني, وبنظرة واقعية لما نعاني منه في عالمنا العربي. رابعا: يجب ألا يكون الخطاب الديني متحجرا علي تفسير بعينه, بل يجب علي كل من يقوم بتفسير النصوص الدينية أن يتحرر من تعصبه ويعترف بأن هناك تأويلات أخري, ومن ثم يجب عدم إلغاء الآخر المختلف في التأويل أو فصله أو شلحه أو تجريمه بما ينزله منزلة المخطيء أو الكافر الذي يستحق الاستئصال المعنوي والمادي, فالأصوليون وحدهم هم الذين يتوهمون أنهم وحدهم الفرقة الصحيحة المستقيمة الرأي التي تحتكر الرأي, وكل مختلف عنهم أو مخالف لهم يعتبر ضمن الهراطقة, ولهو في هوة الفرق الضالة والمضللة التي لا مصير لها سوي النار, أما الناضجون, وغير المتعصبين فهم الذين يقولون للمغايرين لهم لنتعاون فيما اتفقنا عليه, ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه!! خامسا: يجب أن يتحرر الخطاب الديني من الانحياز للميراث التقليدي الاتباعي خصوصا المتشدد, فلا يجوز إهمال الميراث العقلاني الفلسفي, ولا يجوز إقصاء الموروثات المغايرة لها في المنحي والمخالفة لها في الاتجاه, بل يجب أن يكون الخطاب الديني منفتحا مفكرا لا منغلقا مكفرا!! سادسا: يجب أن يخلو الخطاب الديني من السخرية والهزء من معتقدات وإيمانيات الآخرين, فلا يجوز لأحد أن يهزأ من معتقدات وإيمانيات الآخرين المغايرين له. سابعا: بات من المهم أن يتصالح الخطاب الديني مع المستقبل, وكيف له أن يتصالح مع المستقبل, وهو لايزال في مخاصمة حتي مع الحاضر؟!! فالخطاب الديني لايزال غارقا في الماضي السحيق البعيد, حيث القصص والحكايات والروايات التي عفا عليها الزمن منذ زمن!! ثامنا: بات من اللازم أن يتصالح الخطاب الديني مع التفكير العلمي, فالخطاب الديني في عالمنا العربي لايزال غارقا في الخرافات والخزعبلات التي لا يقبلها عقل, ولا يقرها منطق. تاسعا: إننا في حاجة ماسة إلي خطاب ديني يتلامس مع الواقع المعيش ويناقش قضايا الناس اليومية والحياتية, ومن هنا لابد أن يؤكد الخطاب الديني أن الحياة في سبيل الله هي الجهاد الحقيقي, إن الجهاد الحقيقي هو إصلاح أنفسنا من دواخلنا يإيجاد ديموقراطية حقيقية واحترام لحقوق الإنسان في عالمنا العربي, الجهاد الحقيقي هو تطوير التعليم, ومحاربة الجهل والأمية, وهو الصدق مع الله والنفس. إن الجهاد الحقيقي ليس في تقتيل الأطفال وترويع الآمنين, وتفجير البشر وترميل النساء, ولكن الجهاد الحقيقي هو مواجهة العدو بجيوشه المستعمرة وجنوده وقواته المسلحة ومعسكراته المدججة بالسلاح ليس بغرس ثقافة الموت, ولكن بحب الحياة وبالعلم, وبالتقدم وبالاستنارة, إننا نحتاج في عالمنا العربي إلي خطاب ديني يدعو إلي الجهاد السياسي الذي دعا إليه العالم المصري الجليل الدكتور أحمد زويل, فالجهاد السياسي هو الجهاد الحق الذي يعمل لأجل إيقاف الظلم والظلمة, وبالجهاد السياسي يمكننا رد كل مسلوب وكل مغتصب. وختاما إننا نريد خطابا دينيا موضوعيا معتدلا, مرسخا لقيم الحب والتسامح, رافضا لنشر ثقافة الإرهاب والعنف, نريد خطابا نابذا للفرقة, والتعصب داعيا لقبول الآخر المغاير واحترامه, نريد خطابا متسامحا يدعو للحوار مع الآخر المختلف بدلا من رفضه وتجنبه, إننا نري لمن يستمع للخطاب الديني أن يكون بعد سماعه له مفكرا لا مكفرا, وأن يكون صديقا للإنسانية وللحضارة وليس عدوا لهما, فهل من مجيب؟!!