ليس بجديد القول إن القاهرة تعتبر من أكثر مدن العالم ازدحاما.. وتلوثا.. واكتظاظا بالسكان, لكن الجديد الذي يدفعنا للحديث حول تلك المعضلة الأزلية التي رافقتنا منذ عشرات السنين, هو ملاحظتنا أن تلك الظواهر السيئة فيها علي الرغم مما يبذل من محاولات للتخلص منها أو علي الأقل للتخفيف من وطأتها لاتزال بادية للعيان وبشكل مطرد, وللدرجة التي أصبح فيها التحرك أو الانتقال بالقاهرة قطعة من العذاب, يكتوي بنارها جميع سكان العاصمة ومرتادوها فقيرهم وغنيهم عند غدوهم ورواحهم, سواء كان تحركهم سيرا علي الأقدام, أو ركوبا لوسائل المواصلات الخاصة أو العامة. لقد أصيبت القاهرة بأمراضها وأوجاعها المزمنة بسبب مشكلتين متلازمتين, الأولي: مشكلة الانفجار السكاني بها, والتي نتجت في شقها الأول عن النمو الطبيعي لعدد سكانها الأصليين, أما الشق الثاني وهو الأخطر فيتلخص في النزوح الكبير لها من مختلف قري ومراكز ونجوع الجمهورية, إما طلبا للرزق أو توقا للحصول علي خدمات ومزايا تنعم بها العاصمة, وتفتقر إليها المناطق التي هجروها, والأصقاع التي غادروها إلي غير رجعة, أما المشكلة الثانية فهي وإن كانت نتيجة للمشكلة الأولي, فإنها تفاقمت وتعاظمت بسبب العديد من العوامل البشرية, مما يشير إلي مسئوليتنا المباشرة والكاملة عنها, ونقصد بذلك مشكلة الازدحام والشلل المروري. إن تأمل مسببات ونتائج المشكلتين السابقتين, لابد أن يفضي بنا لتحديد بعض أهم جوانب المشكلة من خلال الملاحظتين الآتيتين: أولا: إننا تركنا الأمور لتجري في أعنتها, غير مبالين بالنتائج الكارثية التي ستنجم عنها, حيث وجدنا العاصمة وقد أصابتها تخمة النمو الطبيعي لسكانها, والنمو غير الطبيعي للفارين للإقامة بها منذ عشرات السنين, مما أدي بعدد سكانها إلي ما يزيد علي عدد سكان نحو ستين دولة في مختلف مشارق الأرض ومغاربها, بمعني أن عدد سكان القاهرة وحدها قد تجاوز إجمالي عدد السكان في العديد من دول العالم وليس عواصمها, ومنها: سويسرا, وبلغاريا, والدنمارك, والنرويج, وجورجيا, وأيرلندا, ومقدونيا علي سبيل المثال. ثانيا: إننا سمحنا لسكان القاهرة لتزيد أعدادهم, خلافا لأي تخطيط علمي سليم, علي نحو8 ملايين نسمة, وبإضافة عدد السكان في محافظتي الجيزةوالقليوبيةإقليمالقاهرة الكبري إلي سكان القاهرة, يتبين لنا أن إجمالي عدد السكان بهذا الإقليم وحده قد بلغ نحو19 مليون نسمة, يمثلون نحو ربع عدد السكان في مصر, الأمر الذي ترتب عليه تضخم الكثافة السكانية بالنسبة للمساحة المأهولة( التي تقاس بالألف نسمة في الكيلومتر المربع) لتبلغ في القاهرة سنة2007 نحو24.3, ولنا أن نتخيل هذا الرقم الآن, وهو رقم يثير الذعر والخوف, خاصة إذا عرفنا أن تلك الكثافة لا تزيد علي نحو5.4في الجيزة, ونحو4.1 في القليوبية, وتقل عن ذلك بكثير جدا في مختلف محافظات الجمهورية الأخري!! أما فيما يتعلق بالمشكلة الثانية أو الوجع الآخر فيمكن تتبع أسبابه ورصد نتائجه من خلال ما يلي: أنه تم الركون إلي اعتبار كون القاهرة هي مركز شبكة الطرق والنقل والمواصلات والخدمات والوزارات والمصانع الحكومية, ومن ثم أصحبت مقصد الآلاف من البشر الذين يتوافدون إليها يوميا ولأسباب متنوعة ثم يغادرونها في اليوم نفسه, كما باتت المقصد بغرض الإقامة الدائمة فيها, وذلك أيضا لأسباب متنوعة لم تعد خافية علي أحد, وأدي ذلك في الواقع إلي تحول القاهرة إلي مدينة شديدة الازدحام, بل وأصبحت هي الأسوأ في مصر كلها, حيث ضاقت أرضها علي سكانها, وفي مختلف أحيائها, سواء الراقية منها أو الفقيرة, أما عن حزام العشوائيات المحيط بها كالسوار للمعصم فحدث ولا حرج!! إن الجهود التي بذلت لاستيعاب هذا السيل من السكان لم تنجح في حل مشكلات الشلل والاختناق المروري, التي أصبحت هي الصفة السائدة الآن في جميع أنحاء العاصمة, وفي جميع الأوقات, لذلك فليس لنا أن نندهش من تلك الحالة المرورية المزرية التي بتنا نصبح ونمسي فيها, فطرقات المدينة وشوارعها القديمة والجديدة ضجت بالشكوي لأنها غير مؤهلة أصلا لاستيعاب هذا العدد المليوني من السيارات, كما عجزت مرافق النقل والمواصلات المستحدثة علي الرغم من مليارات الجنيهات التي أنفقت عليها عن مجاراة الزيادات الرهيبة في عدد السكان, وأيضا عدد المركبات التي تجوبها, حيث زادت أعداد الأخيرة في القاهرة بنسبة بلغت نحو%39 خلال خمس سنوات فقط, وإذا أضيفت إلي هذا العدد أعداد المركبات في محافظتي الجيزةوالقليوبية, لتبين لنا أن إجمالي عددها في المحافظات الثلاث زاد علي نحو مليوني مركبة, أي بما يقارب نحو نصف عدد المركبات علي مستوي الجمهورية!! وذلك طبقا لتقديرات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء( وصف مصر بالمعلومات2009 سنوات من التنمية, الإصدار الثامن). وهكذا يتضح أننا بحاجة ماسة للتفكير بشكل جديد ومبتكر عند محاولاتنا لعلاج أمراض القاهرة المزمنة, التي استعصت علي الشفاء حتي الآن, فلم ولن تجدي محاولات علاج تلك الأمراض بالأدوية المسكنة, كما لم تعد المشكلات المترتبة عليها بحاجة للتأجيل أو الترحيل أو الترقيع, كإنشاء كوبري هنا أو نفق هناك. مطلوب أن يجتهد الجميع حكومة ومواطنين وعلماء في التفكير في حلول غير نمطية للخروج من هذا النفق المظلم, واعتقادي الشخصي, واجتهادي المتواضع يدفعانني في الحقيقة لإعادة تذكير الجميع بما أقدمت عليه دول عديدة, عندما شرعت بكل همة وتصميم وعزم ورغبة أكيدة في إقامة عواصم جديدة لها, وهو ما نتصور أنه الترياق النافع, والعلاج الأكيد. د. حسام بريري أستاذ الاقتصاد الزراعي جامعة الأزهر