كل المؤشرات في لبنان تقول انه دخل النفق بالفعل, وأن الخروج منه يحتاج إلي معجزة كبيرة. فإذا كانت دولتان مثل السعودية وسوريا, ولكل منهما علاقات قوية ونفوذ معنوي كبير علي قسم عريض من اللبنانيين, لم تستطيعا أن تؤمنا نجاح مبادرة أو تفاهم علي الخروج من المأزق اللبناني الممتد منذ فترة طويلة, فمن هذا الذي يستطيع أن يؤمن مساحة هدوء وقدرا من الحكمة وقليلا من التعبئة والتشنج ليخرج لبنان من النفق ويري النور ويعيش بصورة شبه طبيعية؟. تساؤل كبير تحتار العقول والدول في الإجابة عليه. هناك محاولات أعلن عنها في اليومين الماضيين; جاءت الأولي من انقرة التي تسعي دائما لتكون في قلب كل أزمة لعلها تؤمن لها مخرجا مناسبا, وتثبت دورا إقليميا فاعلا, ولكن سعي انقرة لم يكن منفردا هذه المرة, بل سيكون مرهونا بتفاهم وتنسيق مع دول أخري كسوريا وقطر وربما السعودية لاحقا ودول عربية أخري. المعلن في المسعي التركي تجسد في لقاء دمشق الذي جمع زعامات سوريا وتركيا وقطر, مستهدفا منع انزلاق لبنان إلي حال اضطراب يضر به نفسه وقد يضر به غيره أيضا, ولتأمين توافق لبناني. بيد أن الآلية للوصل إلي هكذا هدف كبير لم تظهر بعد. قيل هنا أن تأجيل الاستشارات الرئاسية الملزمة قبل تسمية رئيس الحكومة, والذي أعلن عنه رئيس الجمهورية لمدة أسبوع, هو من نتاج هذا اللقاء. وفي انتظار مزيد من الجهود التركية القطرية هذه المرة في بيروت نفسها. أما المحاولة الثانية فجاءت من باريس حيث أعلن الرئيس ساركوزي انه يقترح تشكيل مجموعة اتصال دولية إقليمية تساعد لبنان علي الخروج من مأزقه الراهن, علي أن تضم إلي جانب فرنساوالولاياتالمتحدة دولا من المنطقة كسوريا وقطر والسعودية وغيرهم من الذين يحبون لبنان ويريدون له الخير. والمسعيان معا يفصحان عن رغبات لمساعدة لبنان, لكن الأمر في لبنان اكثر تعقيدا من مجرد النوايا الحسنة لهذا أو ذاك. ومن ثم تظل الأزمة مرشحة للتفاعل نحو الأصعب وربما الأسوأ بعد حين. لقد أوضحت تفاعلات الأيام القليلة الماضية أن التفاهم السوري السعودي لم يكن محصنا في الداخل اللبناني, رغم أن أحدا في لبنان نفسه لم يقل بوضوح كامل ما هي طبيعة هذا الاتفاق بالتحديد, والالتزامات المتبادلة بين أطراف الاتفاق. كما أوضحت التفاعلات أيضا أن لبنان يعيش لحظة استقطاب حادة تتطلب الحذر من المبالغة في رد الفعل, وتتطلب قدرا أكبر من الحكمة عند اتخاذ أي قرار سواء بشأن تشكيل حكومة جديدة أو صياغة برنامج سياسي جديد يحدد ملامح المرحلة المقبلة. وصحيح هنا أن زعيم حزب الله حسن نصر الله في خطابه مساء الأحد الماضي أكد أن جزءا من هذا الاتفاق تضمن ان يقبل سعد الحريري بصفته رئيس الحكومة قبل ان يستقيل11 وزيرا منها, تخلي لبنان عن التزاماته تجاه المحكمة وسحب القضاة اللبنانيين ومنع تمويلها اللبناني, وبالتالي تظل المحكمة قائمة بشكل ما, ولكن مهما يصدر عنها من قرارات اتهام لا يكون ملزما للبنان, وتصبح مهمة تنفيذ هذه القرارات الاتهامية بيد جهات دولية, وبالتالي يرفع الحرج عن لبنان ومؤسساته. بيد أن حسن نصر نفسه لم يكشف عن باقي الالتزامات التي يفترض أن حزبه وحلفائه يلتزمون بها, هو ما أشار إليه سعد الحريري قبل عشرة أيام حين قال أن الاطراف الاخري لم تف بما عليها من التزامات, دون أن يحدد فحواها. وهو ما يقود إلي استنتاج بأن التفاهم نفسه المعروف إعلاميا ب( س س) لم يكن متوازنا في الأصل, ومن ثم فهو غير قابل للتطبيق علي الأرض, مهما وصف بأنه من أجل لبنان ومنع انزلاقه إلي ما لا يحمد عقباه. هذا الغموض الذي يحيط بأسس التفاهم السوري السعودي يجعل من التمسك به كأساس لتسوية مستقبلية أمرا متعذرا, خاصة في ضوء عاملين; الاول إذا صدر قرار يتهم اعضاء من حزب الله بالتورط في اغتيال الرئيس رفيق الحريري, والثاني استمرار تعثر تشكيل حكومة جديدة. ونظرا لتزامن العاملين معا, يبدو البحث عن صيغة جديدة تراعي المستجدات امرا لا مفر منه. فالمرجح أن صدور قرار يتهم عناصر من حزب الله, ومع اليقين بعدم قدرة مؤسسات لبنان نفسها الأمنية والقضائية تنفيذه, فإن البيئة النفسية الجماعية ستصبح تحت ضغط كبير, فالاتهام في حد ذاته, ومهما قدم الحزب من أدلة مضادة تكشف عواره وفساده واستناده إلي أسس سياسية تريد النيل من الحزب كقوة مقاومة طليعية ضد إسرائيل والولاياتالمتحدة, سيظل الحزب في نظر بعض اللبنانيين متهما أو متورطا في جريمة اغتيال كبري هزت لبنان والمنطقة بأسرها, وما زالت. أما استمرار تعثر تشكيل حكومة فيعني أن لبنان سوف يستمر لفترة قد تمتد إلي شهور عديدة في حالة جمود سياسي فعلي, لا يستطيع معها اتخاذ أي قرار كبير يهم جموع الناس لا في الداخل وفي الخارج. مع ملاحظة أن بقاء حكومة تصريف الاعمال تحت رئاسة رئيس وزراء مكلف في ظل توتر وتشنج سياسي ناتج عن أي قرار ظني, من شأنه أن يزيد من التوتر العام, ويفاقم الاستقطاب السياسي. ولذا يظل التساؤل الكبير ما هي عناصر الحل الممكن؟. وهنا لابد من الاشارة إلي ثلاثة ظواهر مهمة: الظاهرة الاولي وهي التمسك السني بالحريري رئيسا مكلفا للوزارة الجديدة, وفي المقابل فشل المعارضة في تسمية رئيس وزراء سني بديل للحريري. والحق أنها مهمة عسيرة للغاية أن يتطوع سياسيا سنيا لتشكيل حكومة دون أن يكون مدعوما حزبيا وشعبيا, وبحيث يظهر وكأنه ضد الوصول إلي الحقيقة والعدالة بشأن اغتيال شخصية كبيرة بحجم رفيق الحريري وباقي الشخصيات اللبنانية التي تعرضت لعمليات اغتيال تظل مجهولة الفاعل حتي اللحظة. وتبدو هنا مواقف قيادات سنية مرموقة ذات دلالة, مثل نجيب ميقاتي وأحمد كرامي والوزير محمد الصفدي وقاسم عبد العزيز, الذين يمثلون الشمال السني, فقد عبروا عن ضرورة وحدة الموقف السني وكونهم غير مرشحين كبدلاء للحريري. الظاهرة الثانية أن شروط حزب الله التي أعلنها السيد نصر الله في خطابه الأخير مساء الاحد الماضي لتشكيل حكومة جديدة تعد شروطا غير مقبولة من الطرف الأخر صاحب الأغلبية البرلمانية, وهي تعيد انتاج الموقف السابق بلا أدني تغيير, بل تزيدها تعقيدا, لاسيما ما يتعلق بالاتهامات الضمنية بأن الحريري نفسه يحمي شهود الزور ويمتنع عن تحويلهم للمحاكمة بل هو شريك لهم, وانه يتلقي الأوامر من الولاياتالمتحدة ويتغاضي عن سيادة البلاد وهي اتهامات تقترب من الخيانة. ومن هذه الشروط التي أعلنها حسن نصر الله ألا تحمي الحكومة الجديدة ما أسماه بشهود الزور, والا تحمي الفساد المالي, وأن تتحمل مسئوليتها لمعالجة قضايا الناس, وألا تتآمر علي المقاومة, وألا تتعامل مع قرارات المحكمة الدولية. معتبرا ان إعادة تسمية الحريري رئيسا مكلفا لتشكيل حكومة جديدة سيكون له موقف آخر. الظاهرة الثالثة أن الطرف الآخر, أي تيار المستقبل من السنة والمسيحيين, يتمسك بشرعية مواقفه لأنه يمثل الأغلبية, ومحددا موقفه في أربعة لاءات/ شروط ذكرها فارس سعيد المتحدث باسم قوي14 أذار, وهي لا تسوية علي حساب العدالة, ولا للتعطيل, ولا رئيس سوي سعد الحريري, ولا للتلاعب بالاستقرار الأمني, وبعد ذلك استعداد للحوار مع كل الاطياف والقوي السياسية. الظاهرة الرابعة هي قيام وليد جنبلاط الذي يملك كتلة نيابية قوامها11 نائبا يمكنها أن تحسم الموقف لصالح أي من الفريقين المتصارعين, بعملية تقريب وجهات النظر بين القوي الرئيسية مدعوما في ذلك من سوريا وحركة أمل ونبيه بري شخصيا, وذلك للخروج من مأزق تسمية رئيس حكومة جديدة, دون أن يكون لذلك أثر معاكس علي الوضع اللبناني ككل. في حين يشار إلي أن موقف كتلته النيابية يميل إلي إعادة تكليف سعد الحريري وليس غيره. التأمل في هذه الظواهر الثلاثة يشي بأن لبنان ما زال يدور في حلقة التفاعلات السياسية والاستحقاقات الدستورية, وهو أمر محمود طالما أن لا أحد يتقدم نحو تغيير وقائع علي الأرض. وإذا استمر الحال علي هذا النحو, وحتي في حال صدور قرار ظني ضد عناصر من حزب الله, ودون أن تشكل حكومة ذات برنامج محدد, فيصبح لبنان من الناحية العملية غير قادر علي التعامل مع القرار, وبالتالي يصبح الجمود السياسي نوعا من الحل غير المباشر لأزمة لبنان مع قرارات المحكمة, ولكنه في الآن نفسه قد يدفع البلاد إلي المجهول, خاصة إذا اندفع أحد الفرقاء وقرر النزول إلي الشارع ليعيد تغيير الخريطة السياسية القائمة, عندها يصبح الجمود نفقا عميقا شديد الظلمة, الخروج منه هو المستحيل بعينه.