الآن, وبعد أن أصبح الانفصال الجنوبي عن السودان, حقيقة واقعة ومؤكدة, أو كاد أن يكون بعد اكتمال عملية الاستفتاء الجنوبي خلال الأيام القليلة الماضية وسط حفاوة أمريكية وإسرائيلية وأوروبية غير مسبوقة وغير معهودة, لم تعد القضية التي تستحق أولوية الاهتمام والتركيز هي من المسئول عن إضاعة جنوب السودان؟ رغم خطورة ومحورية هذا السؤال والإجابة عليه, لأن الذين أضاعوا السودان مهيئون لإضاعة دارفور, وربما قريبا, وأجزاء أخري من السودان قد تجعل شعار التقسيم هو الحل الذي دعا إليه جون بايدن نائب الرئيس الأمريكي كحل لأزمات العراق بعد كل ما أحدثه فيه الأمريكيون من تمزيق وتخريب بعد غزوه واحتلاله والحرص علي طمس هويته القومية العربية, ليس مجرد شعار ولكن سياسة فعلية متبعة ومدعومة أمريكيا وربما دوليا لحل ما سوف يشاع من أزمات سياسية واجتماعية داخل العديد من الدول العربية, ابتداء من أزمات الفتن الطائفية والصراعات العرقية داخل الدولة الواحدة, وامتدادا إلي ما يمكن أن تصل إليه هذه الأزمات من مواجهات مسلحة داخل هذه الدول. رغم أهمية وخطورة كل ذلك, ورغم ضرورة الاستعداد والحرص لمواجهته بسياسات وخطط مدروسة وليس بردود فعل عشوائية, فإن هناك أمورا أشد خطورة علي السودان تفرض نفسها كأولويات واجبة التصدي من الآن, كلها تتعلق بتحديات سوف تفرض نفسها علي السودان أولا, وعلي مصر ثانيا, وعلي كل العرب ثالثا كنتيجة أو كمحصلة لانفصال جنوب السودان, أو فلنقل كتداعيات لهذا الانفصال. أول هذه التداعيات هو الصراع السياسي العنيف, الذي قد يتحول مع الوقت إلي اضطراب وفوضي سياسية ربما تعجل بانفصال إقليم دارفور بعد إقليمالجنوب, في السودان الشمالي بين الفرقاء. فالواضح, منذ أسابيع سبقت الاستفتاء الجنوبي, أن هناك حالة تربص من جانب المعارضة السودانية بكافة فصائلها بالنظام الحاكم من أجل إسقاطه, انطلاقا من قناعة مؤداها أن هذا النظام أضحي في أضعف حالاته بعد فشله في المحافظة علي الجنوب, أو بعد أن أضاع الجنوب بسياساته الخرقاء وسوء إدارته لمجمل العملية السياسية السودانية. الفكرة المحورية التي ترتكز عليها المعارضة السودانية لحجب الشرعية عن النظام هي, وكما جاءت علي لسان فاروق أبو عيسي الناطق باسم ما يسمي ب تحالف المعارضة هي أن إعلان الانفصال يعني أن السودان القديم قد انتهي, وبالتالي فإن نهاية هذا السودان القديم تعني أن العلاقة التعاقدية بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان( التي تحكم الجنوب) في اتفاقية السلام( اتفاقية نيفاشا لعام2005) قد انتهت, وستكون أمام حكومة فقدت شرعيتها, وكذلك دستورها الحالي. معني ما تقوله المعارضة هو أولا رفض دعوة الرئيس السوداني عمر البشير إلي تشكيل حكومة سودانية جديدة ذات قاعدة عريضة, وثانيا إسقاط نتائج الانتخابات التي أجريت في أبريل2010( التي شملت انتخاب رئيس الجمهورية وحكام الولايات الخمسة والعشرين وانتخاب أعضاء البرلمان القومي والمجالس التشريعية في الولايات, إضافة إلي انتخاب رئيس حكومة إقليمالجنوب وبرلمانه), وهي الانتخابات التي فاز فيها حزب المؤتمر الوطني( الحاكم) باكتساح وتهميش أحزاب المعارضة السودانية, وثالثا تشكيل حكومة قومية متفق عليها بين كافة ألوان الطيف السياسي, هذا كله يقود إلي رابعا وهو رفض أي ترقيع للدستور الحالي ورفض أن يرث حزب المؤتمر الوطني( الحاكم) دولة السودان الشمالي( هكذا تسمي المعارضة السودان الآن), والدعوة إلي وضع دستور جديد للبلاد يضم كل السودان بما فيه أهل درافور الذين يجب أن يكون لهم مكان علي طاولة وضع الدستور الدائم للبلاد, والمحصلة هي خامسا, وحسب تصريحات أمين الدائرة السياسية لحزب المؤتمر الشعبي( الذي يتزعمه الدكتور حسن الترابي) زوال حزب المؤتمر الوطني عن الحكم. هكذا, تبدو البداية, صراع سريع وعاجل علي السلطة, في حين يتبني الرئيس البشير وحزبه الحاكم الدعوة إلي ائتلاف وطني لإنقاذ السودان ولملمة أشلائه والحيلولة دون انفراطه, ويرون أن دعوة المعارضة تأتي في إطار المصالح الحزبية, ويحرص الحزب الحاكم أن ينفي مسؤوليته عن إضاعة جنوب السودان, ويري أن المسئولية هي مسئولية كل العهود والحكومات السودانية السابقة وليس فقط حزب المؤتمر الوطني الحاكم, فهو ليس أول من أعطي الجنوبيين حق تقرير المصير, ويري أن أحزاب المعارضة تأتي طرفا مباشرا وشريكة سابقة في الحكم ومعنية بهذه المسئولية. الصراع لن يكون فقط علي السلطة, ولكنه سوف يمتد إلي قضايا الحكم والشريعة وغيرها من القضايا الأساسية علي ضوء ما أعلنه الرئيس البشير من أنه سيتم تعديل الدستور, وستكون الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع في حال انفصال الجنوب, ففي خطاب ألقاه بمدينة القضارف شرقي السودان: إذا اختار الجنوب الانفصال فسيعدل دستور السودان, وعندها لن يكون هناك مجال للحديث عن تنوع عرقي وثقافي وسيكون الإسلام الدين الرسمي والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. الصراع لن يكون فقط حول الشريعة أم لا بل وأيضا أي شريعة حسب مواقف حزب المؤتمر الشعبي( المعارض) الذي يري أن الشريعة التي يتحدث عنها حزب المؤتمر الوطني( الحاكم) ما هي شريعته هو وليست الشريعة الإسلامية التي يتحدث عنها القرآن والسنة. قنابل موقوتة قابلة للانفجار السريع في ظروف شديدة الخطورة وتوترات غير مسبوقة في مناطق مؤهلة للانفصال من شأنها أن تضع السودان أمام مخاطر وتحديات هائلة من عدم الاستقرار. ثاني هذه التداعيات تتعلق بالصراعات المحتملة بين الشمال والجنوب بعد انفصاله, وهي أيضا قنابل موقوتة وشديدة الحساسية, أبرزها قضايا ترسيم الحدود, وبالذات ما يتعلق بوضع منطقة ابيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب, والتي يغذي الأمريكيون والإسرائيليون الصراع بشأنها بقوة, إضافة إلي قضايا النفط والمياه, والجنوبيون في الشمال, والشماليون في الجنوب, والحقوق المكتسبة لكل هؤلاء. هذه القضايا الخلافية, المرشحة لأن تتحول إلي قضايا صراعية سوف تزداد خطورتها في ظل التدخل الأمريكي الإسرائيلي القوي في شئون حكومة الجنوب, وفي ظل الصراع السياسي المرشح لأن يتطور بين الفرقاء المتنافسين علي السلطة في الشمال. أما ثالث هذه التداعيات فيتعلق باستمرار أسباب وعوامل تغذية النزعة الانفصالية في باقي أجزاء السودان, والتركيز الآن علي منطقتي أبيي ودارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ومناطق البجة في شرقي السودان, في ظل الدعم الأمريكي الصريح والانحياز المعلن من جانب الرئيس الأمريكي باراك أوباما لما يسميه ب حق تقرير المصير الذي ليس له غير معني واحد بالنسبة للأوضاع السودانية الراهنة, وفي ظل اعتبار الحركة الشعبية لتحرير السودان( التي تحكم جنوب السودان) أن كردفان والنيل الأزرق مناطق متصارع عليها مع الشمال وتريد أن تستخدمها كورقة مساومة للحصول علي منطقة ابيي النفطية. نأتي لما هو أخطر بالنسبة لمصر والعرب وهو المردود العام لكل ما يحدث للسودان وما يحدث فيه وبالذات المخاطر المباشرة علي موارد مصر المائية وأمنها القومي في ظل الوجود القوي للنفوذ الإسرائيلي علي حكومة الجنوب السودانية, وحرصها علي أن توظف هذا النفوذ كأوراق ضغط مستقبلية في علاقاتها مع مصر والسودان, وبالنسبة لمخاطر تعميم سيناريو التقسيم الذي يحدث في السودان لتعميمه كحل سحري للصراعات العرقية والطائفية والدينية داخل كل دولة عربية والمرشحة لأن تكون صراعات فرعية بديلة للصراع العربي الإسرائيلي, حسب ما يخطط الإسرائيليون ويدعم الأمريكيون. فالفكرة المحورية الإسرائيلية المدعومة أمريكيا منذ الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله ومنذ الحرب الإسرائيلية علي لبنان صيف2006 هي فرض التقسيم واعتماد الصراعات الداخلية العرقية والطائفية داخل الدول العربية وتغذية الصراعات الدينية العربية العربية كحل بديل للصراع الشامل بين العرب وإسرائيل كي يتواري هذا الصراع ويتحول إلي قضية ثانوية مقارنة بتلك الصراعات. وهكذا أخذت قضايا مثل الصراع السني الشيعي, والصراع الإسلامي القبطي, والصراع العربي الكردي, والعربي الأمازيغي أولويات ملحوظة في السنوات الأخيرة, وسوف تحصل علي دعم غير مسبوق من تداعيات انفصال الجنوب في السودان. تحديات وتداعيات خطيرة تحدث في ظل ما هو أشد خطرا وهو غياب القيادة العربية والعقل الاستراتيجي العربي القادر علي أن يتحدث باسم الأمة ويدافع عن مصالحها ويخطط لمستقبلها في ظل ما حدث من أول انفراط في العهد الحديث في الرابطة العربية وتحول السياسة الإسرائيلية في الصراع مع العرب من سياسة شد الأطراف إلي سياسة تقطيع الأطراف.