تنوعت تعليقات القراء علي مقالي الماضي خريطة معرفية للمجتمع العالمي, وبعض هذه التعليقات احتوي أفكارا قيمة, وبعضها الآخر طالب الكاتب بمزيد من التفصيل عن وقع التحولات في بنية المجتمع العالمي علي المجتمع العربي. قارئ واحد فقط قرر أنه لم يفهم شيئا من المقال وأوجز تعليقه في سطر وحيد يخاطب الكاتب قائلا أرجو أن تكتب الموضوع من أول سطر لكي أفهم! مع أنني ظننت أنني أكتب بلغة عربية واضحة, غير أن هذا الظن يبدو أنه وهم في رأي بعض القراء! وأيا ما كان الأمر, فإن أهم التعليقات قاطبة وبغض النظر عن أسماء القراء هو التساؤل: هل يمكن للمجتمعات العربية التعامل مع التغييرات العالمية بصوت واحد, علي الرغم من التعدد في أنظمة الحكم العربية؟ وهناك تعليق آخر يؤكد أن هذا العصر الذي نعيشه يسمو علي كل العصور في التواصل والتبادل المعرفي, غير أن صاحب التعليق يطالبني بالإجابة عن سؤال مهم هو: هل يمكن التحول إلي الديمقراطية في العالم العربي؟ ولا أستطيع ألا أشير إلي الدعاء الصالح الذي سجله السيد/ طه موسي الذي قال فيه: اللهم انصر عبدك السيد يسين بالعلم والمعرفة والكتاب والآيات والسنة, وبجنود لا يرونها, وبالملائكة وبالوحي والإلهام ومصلحة المؤمنين.. ألهم أنصره بنور الإيمان.. آمين. أوردت هذا الدعاء الصالح بنصه لكي أبين للقراء الكرام أن عصر مجتمع المعلومات أصبح يتيح للقراء وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ الإنسانية أن يتفاعلوا مع الكاتب فور قراءاتهم لنصه علي شبكة الإنترنت, وهم أحرار فيما يكتبون من تعليقات ذما أو مدحا, نقدا أو تأييدا لرأي الكاتب, وهذه الصيغة التفاعلية تعني ببساطة أن القارئ أصبح مشاركا في إنتاج النص مع الكاتب, فالإطلاع علي المقال علي الإنترنت عادة ما تصحبه عدة تعليقات قد تصل في بعض الأحيان إلي عشرين تعليقا أو أكثر, ومعني ذلك أن قارئ الإنترنت علي عكس قارئ الصحيفة يقرأ في الواقع نصا مختلفا عن النص الأصلي, ذلك أنه يتضمن النص الأصلي بالإضافة إلي نصوص التعليقات. هذا عالم جديد تعيشه الإنسانية لأول مرة, حيث انتقل التفاعل الإنساني في جزء مهم منه من المجتمع الواقعي إلي المجتمع الافتراضي, حيث تعتبر شبكة الإنترنت هي الآلية الأساسية التي تسمح لملايين البشر الذين ينتمون إلي مختلف جنسيات العالم بالتفاعل بلا حدود أو قيود, فليس هناك أمام المتعامل مع الإنترنت سواء أرسل بريدا إلكترونيا أو شارك في حلقة من حلقات النقاش أو دون مدونة, حراس للبوابةGateKeeperes وهو التعبير السائد في الدراسات الإعلامية عن الرقباء بكل أشكالهم, سواء كانوا رؤساء تحرير للجرائد والمجلات, أو محررين لكتب, أو مقدمين للبرامج الإذاعية والتليفزيونية, أصبحنا نعيش عصر التعبير الطليق المتحرر من كل قيد, الرافض لأي حدود. وليس أدل علي ذلك أن إحدي صور التعبير الطليقة في شبكة الإنترنت هي ما يطلق عليه المدوناتBlogs, وقد أجري مركز دعم القرار التابع لمجلس الوزراء المصري بحثا رائدا عنوانه: المدونات المصرية: فضاء اجتماعي جديد, بإشراف الدكتور سعيد المصري, وقد قدم البحث مجموعة من المعلومات المفيدة عن ظهور المدونات وانتشارها وأنماطها. ووفقا لهذا البحث فإن ظهور المدونات علي الإنترنت بدأ عام1996 بكتابة الأخبار, وتسجيل ردود الفعل بشأنها, والتعليقات علي طائفة واسعة من القضايا. والمدونات هي صفحات يتم إنشاؤها علي الإنترنت تحتوي علي سجل من المعلومات متسلسلة زمنيا تتمثل في نصوص وصور وبرامج ومواد صوتية متاحة لجمهور بعينه, وقد تتسم المدونة بالطابع الشخصي أو الخاص عمن يتولي التدوين بها, وقد تكون المدونة منبرا سياسيا للمدون, يكتب فيه تعليقاته علي الممارسة السياسية في بلاده. وقد أصبحت المدوناتBlogs إحدي الوسائط المهمة في المجتمع الافتراضي نظرا لسماتها البارزة, وأهمها التفاعلية في إنتاج وتداول المعرفة, وباعتبارها مجالا خصبا للتعبير عن الذات, بالإضافة إلي السهولة والسرعة في التدوين, وزيادة المقدرة علي التواصل مع الآخرين, وإيجاد تجمعات افتراضية ذات هويات مشتركة. ومما يدل علي الأهمية البالغة للمدونات كأداة للاتصال والتفاعل الإنساني أن عددها في كل أنحاء العالم وصل حتي عام2007 إلي75 مليون مدونة. وفي حصر أجراه مجتمع المدونات المصرية قدر عدد المدونات المصرية بنحو160 ألف مدونة, وذلك بتاريخ23 أبريل2008, ويصل مجموع المدونات العربية إلي490 ألف مدونة, وهو ما يعادل7,0% من حجم المدونات عالميا. وإذا استطلعنا التراث العلمي المصري والعربي لاكتشفنا أن عشرات الدراسات المتنوعة أجريت علي المدونات من زوايا متعددة, قام بها أساتذة وباحثون حرروا رسائل ماجستير ودكتوراه في الموضوع. ومن أكثر البحوث اكتمالا التي أتيح لي الاطلاع العميق عليها عبارة عن رسالة ماجستير شاركت في لجنة الحكم عليها, وهي بحث عن بحث العلاقة بين المدونات الإلكترونية والمشاركة السياسية في مصر, الذي أعدته الباحثة فاطمة الزهراء إبراهيم إلي كلية الإعلام بجامعة القاهرة, وأشرف عليها الدكتور شريف اللبان. وتري الباحثة في الفصل الثالث من الرسالة الذي خصصته للمفهوم والتأثير السياسي للمدونات الإلكترونية, أن المدونات إحدي وسائل الإعلام الجديد التي اكتسبت أهمية متزايدة في توفير فرص أكثر أمام تشكيل مجتمع معلومات قائم علي الديمقراطية, إذ أصبحت أشبه بصفحة رأي متجددة, يتكلم الناس من خلالها بحرية ويتناولون موضوعات مهمة, الأمر الذي يكسر الحاجز النفسي وحاجز الخوف لدي المواطنين من التعبير عن الرأي, لاسيما مع إمكان التخفي عبر الإنترنت بالكتابة تحت اسم مستعار, كما أنها تدعم لا مركزية العمل السياسي, ومفاهيمه العالمية والتواصل والتفاعل الإنساني, دون اكتراث بحواجز الزمن أو حدود المكان, والباحثة هنا تقتبس هذه الفقرة من دراسة لأستاذها د. شريف اللبان عنوانها أزمة حرية التعبير الإعلام التقليدي في مواجهة التدوين. وتتضمن هذه الدراسة المتميزة معلومات مهمة عن أنواع المدونات وفقا لنوع الوسطMedia فهناك مدونات الفيديو, والمدونات الصوتية, ومدونات الصور. وهناك تصنيف آخر وفقا للمضمون, ومن أهمها المدونات الشخصية التي يدون فيها المدون خواطره, أو ينشر إبداعه الأدبي ومدونات سياسية تكتسب أهميتها في أنها أتاحت الفرصة لأجيال متعددة من الشباب في المجتمع العربي أن يعبروا بحرية عن آرائهم السياسية, التي قد تصل ليس فقط لإبداء المعارضة العنيفة للنظم السياسية التي تحكم بلادهم, بل وفي التحريض ضدها في صورة الدعوة للقيام بمظاهرات سياسية, أو تأسيس حركات احتجاجية, أو في حدها الأقصي الدعوة للقيام بعصيان مدني لإسقاط النظم والحكومات. وهكذا يمكن القول إن المدونات أصبحت بحكم انتشارها واتساع قاعدة قرائها وسيلة إعلامية بديلة, ولذلك حاولت العديد من الدول العربية ليس فقط مراقبة ما يكتب في المدونات, ولكن ملاحقة بعض المدونين, ومحاولة إيقاف عدد من المدونات. وقد حاولت الباحثة فاطمة الزهراء في فقرة مهمة من رسالتها المذكورة تحديد خصائص المدونين واهتماماتهم, واعتمدت في ذلك علي موقع عالمي معروف هوTechnorati الذي أنشيء عام2004 وهو يهتم باتجاهات وإحصاءات التدوين حول العالم, وقد أجري مسحا في الفترة من4 إلي23 سبتمبر2009 شمل2828 مدونا ينتمون لخمسين دولة, وقد نشره يوم19 أكتوبر.2009 وقد تبين من هذا المسح أن التعبير عن الذات هو الهدف الرئيسي لغالبية المدونين, الذين يتسمون بأنهم ذوو مستوي تعليمي واقتصادي مرتفع. وإذا كان معظم المدونين من الشباب, فإن التدوين يجتذب أيضا أشخاصا ناضجين, فقد تبين مثلا أن39% من العينة سنهم أكبر من45 عاما, وأن4% يبلغون65 عاما أو يزيد, و53% ما بين25 وأربعة وأربعين عاما. وقد تبين أن السياسة تحتل مرتبة متقدمة في اهتمامات المدونين, حيث جاءت الموضوعات الشخصية في المرتبة الأولي بنسبة45%, يليها التكنولوجية41%, ثم السياسية32%, والخبرية30%. هذه لمحات موجزة عن المدونات التي أصبحت إلي حد كبير لغة التواصل بين الشباب, إلا أن بعض المستحدثات التكنولوجية الأخري في مجال الشبكات الاجتماعية مثل الفيس بوكFaceBook التي أصبح من يستخدمونها في العالم يعدون بمئات الملايين, وكذلك ما يطلق عليه الTwitter أي تحرير الرسائل القصيرة منافسا قويا للمدونات. ولكن ستظل المدونات السياسية علي وجه التحديد هي الآلية الرئيسية لتعبير الشباب العربي عن آرائهم السياسية, بل والوسيلة التي يطمحون من خلالها إلي تحريك بحيرة السياسة الراكدة في المجتمع العربي.