بوضوح بالغ وفي سياق تحديده لمعالم المرحلة القادمة أشار الرئيس حسني مبارك الي قضايا تمثل عملا شاقا في مقدمتها قضية الاستثمار والنمو والتشغيل.. وعمل شاق ودؤوب من أجل تشريعات واجراءات تنفيذية تحقق عدالة توزيع عوائد وثمار النمو والتنمية, جاء ذلك خلال اجتماعه مع الهيئة البرلمانية للحزب الوطن قبل أيام قليلة. واضح إذن أن قضية التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية تحتل أولوية متقدمة ومن ثم تحتاج الي مناخ وآليات تحقق لهما التسارع ومواجهة الفرامل التي تبطيء حركتهما وتقلل معدل النمو في مقدمتها عدم عدالة التوزيع ونمو الدخول في المجتمع بشكل هلامي يتمدد لدي البعض وينكمش لدي الكثير بالاضافة الي ظهور وتوطن حجم للفساد يعوق النمو, وهو الفساد الذي يرتبط غالبا بالفجوة الكبيرة بين المرتبات والدخول وهي ما تسمي معدل الاغراء ويؤدي الي الاضرار بالاداء الاقتصادي وزيادة التكاليف الإدارية وبطء الاستثمار وإن كان الأمر المخيف ان مطلب رفع الحد الأدني للأجور الي400 جنيه يراه الدكتور أحمد درويش وزير التنمية الإدارية لا يحل قضية الفساد من جذورها. وثمة أسئلة تطرح في هذا النطاق تتلخص في: هل التنمية ممكنة دون ان تكون هناك اجراءات مؤثرة لتحقيق العدالة في توزيع الدخل, وتقليل الفجوة بين الدخول ومواجهة الفساد؟! إن الفساد يأكل ثمار التنمية هذا ما خلصت إليه دراسة أجراها مركز العقد الاجتماعي الذي انشيء بمبادرة مشتركة مع مركز معلومات مجلس الوزراء والبرنامج الانمائي للأمم المتحدة وبتفصيل أكثر تقول الدراسة إن للفساد آثارا سلبية علي كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وذلك لما يسببه الفساد من إهدار للأموال والثروات وعرقلة أداء المسئوليات وانجاز الوظائف والخدمات وبالتالي يسبب مزيدا من التأخر في عملية التنمية. والفساد يؤدي الي صعوبة جذب الاستثمارات الأجنبية وهروب رؤوس الأموال المحلية وينتج عن ذلك ضعف عام في توفير فرص العمل وانتشار البطالة والفقر. وتشير الأدلة كما تقول الدراسة إلي وجود ارتباط مباشر بين الفساد والنمو الاقتصادي فكلما زاد الفساد في مجتمع ما كلما قامت فئة قليلة بالسيطرة علي موارد الدولة بغير وجه حق كما انه عقبة في تحقيق سياسات الاصلاح الاقتصادي( الصين تعد نموذجا لذلك). واذا كان البعض يزعم ان الرشاوي والعمولات تسهل الاجراءات الادارية وانجاز المصالح المتأخرة وتوفر وقتا وتحقق منفعة لكل الاطراف فإن هذه الفرضية كما تقول الدراسة لم تثبت صحتها ابدا فقد يتعمد القائمون علي الاجراءات التأخير للحصول علي هذه الرشاوي. وفي مؤشر الفساد العالمي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية أكد ان الفساد يضر بمصالح الفقراء أكثر من غيرهم. وإذا انتقلنا الي الحالة المصرية لتشريح أوضاع الفساد فأن دراسة مشتركة مهمة اجراها مركز الدراسات بالأهرام مع مركز المشروعات الدولية الخاصة لبحث اين يقع الفساد وذلك علي عينة مكونة من1800 مواطن تم اختيارهم بعناية ووفق معايير علمية منطقية ومنضبطة كان السؤال عن أهم المصادر التي يعتمد عليها المواطن في تكوين رأيه عن الفساد؟40% قالوا من الفضائيات و10% من الخبرة المباشرة و7% من الصحافة القومية, و2% من الصحافة المستقلة والمعارضة. ويبدو أن تقديم الإكرامية( كما تسمي الآن الرشوة) قد أصبحت عادة عند البعض فالاجابة علي سؤال: لماذا دفعت هذه الأموال غير المطلوبة قانونا؟ قال90% انهم اعتبروا ذلك أمرا مألوفا يقوم به الجميع بينما56% من الناس قالوا ان الموظف طلبها مباشرة, ويبدو أن السبب الرئيسي في طلب هذه الاكرامية هو تدني المرتبات. ولكن ماذا يشغل بال المصريين الآن؟ وما هي همومهم؟ لقد احتلت المرتبة الأولي قضايا البطالة وارتفاع الأسعار وتزايد الفجوة بين الاغنياء والفقراء وانتشار الواسطة وبالتالي فإن هذه المجموعة تمثل مظاهر للفساد والسؤال هل هذا يعود الي السياسات الاقتصادية التي تتقرر والتوجهات الاجتماعية؟ هناك تفاصيل أكثر في هذا الشأن احتوتها دراسة مهمة اجراها مركز المعلومات واتخاذ القرار بمجلس الوزراء من خلال بحث أجراه في ابريل2009 علي عينة تمثل800 حالة من صغار ومتوسطي المشروعات في6 محافظات تتحري الفساد في العلاقة بين أصحاب الأعمال والإدارات الحكومية المختلفة فماذا قال أصحاب الأعمال؟ قالوا إن نسبة تقديم المدفوعات غير القانونية هو تعبير مهذب عن الرشوة أو الإكرامية في حالة تأسيس الشركات تبلغ43% وتنخفض بعد التشغيل الي29% وتري الدراسة ان هذه النسبة مرتفعة ولا تشجع علي ولوج قطاع الأعمال وبالتالي فهي تبطئ النشاط الاقتصادي والاستثمار وترفع التكاليف وتقلل فرص العمل وتزيد البطالة. وتعود الدراسة لتؤكد ان انخفاض الاجور يعد السبب الرئيسي لدي الموظفين لقبول تلك المدفوعات غير القانونية وأن نسبة دفع الأموال التي يطلبها الموظف بشكل صريح أو ضمني تبلغ42% علي مستوي الجمهورية. ومع ذلك هناك أمران يجب الالتفات اليهما, الأول ان شيوع هذه الظاهرة لا يأتي بشكل متساو بين جميع المتعاملين مع الادارات الحكومية ذات الصلة بمعني ان هناك موظفين لا يطلبون شيئا ولا يقبلون ذلك ويقومون بتأدية العمل بأمانة وبدون تسويف أو تعطيل, أما الأمر الثاني والغريب الذي يجب ان نلتفت اليه فهو غموض العلاقة بين المدفوعات غير القانونية وبين تقديم الخدمة للمواطنين بمعني انهم احيانا يقدمونها كأمر مألوف دون ان يطلب منهم ذلك وهو ما يعني امكانية الحد من هذه الاكراميات أو المدفوعات. تلك هي الصورة وإذا كان مرتب ال400 جنيه لا يحد ولا يحل قضية الفساد فإن هناك بالتأكيد حلولا أخري تعمل علي الجانبين, سواء بالنسبة لمقدمي تلك الخدمات والتعامل مع الجمهور بتبسيط الاجراءات والفصل بين مقدم الخدمة والجمهور, وتحديد واضح لتكلفة استخراج المستندات ووجود رقابة حقيقية وفعالة وتوعية المواطنين بحقوقهم, وعلي الجانب الآخر تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع عادل لثمار النمو بحيث تتحرك من أعلي الي أسفل وفق مسارات تسمح بها ولا تعوقها والتفكير في استخدام الضرائب التصاعدية بشكل مناسب وفرض ضرائب علي التصرفات العقارية ببيع الأراضي والشقق والفيلات وتحديد نسبة من الضرائب علي ارباح الأسهم للحد من المضاربات الضارة والسلوك الجائر والحد من الأموال الساخنة التي تأخد ولا تعطي.. تضر ولا تفيد.