لم يكن يشك أحد في فوز الحزب الوطني الديمقراطي بأغلبية مقاعد برلمان2010 في الانتخابات التشريعية, التي جرت عبر دورتين في28 نوفبمر الماضي و5 ديسمبر الحالي, لا في الداخل ولا في الخارج, لا في أوساط المعارضة أو الناخبين أو المراقبين. , وذلك لأسباب كثيرة ومتعددة لا مجال للخوض فيها لأنها معروفة للجميع, أقصي ما كانت تطمح إليه المعارضة الرسمية وغير الرسمية التي قررت المشاركة في العملية الانتخابية هو الحصول علي تمثيل مقبول في البرلمان الجديد لن يمكنها بالطبع من إحداث تغيير كبير أو انقلاب في السياسة المصرية, ولكنه في كل الأحوال يكفل لها الحضور في مناقشة الشأن العام والسياسات الحكومية ويبقي عليها فاعلا سياسيا إلي حين في التطور السياسي العام في البلاد. بيد أن نتائج الانتخابات اتخذت طابعا يقلص تمثيلية المعارضة الرسمية, ويفقدها المصداقية أمام جمهورها وأعضائها, ويعزز كفة القائلين بالمقاطعة وعدم المشاركة في العملية الانتخابية ويؤكد فعليا احتكار الحزب الوطني لمقاليد العملية السياسية بمستوياتها المختلفة. الأهم من ذلك أن نتائج هذه الانتخابات فيما يتعلق بالمعارضة قد تفتح الطريق لتفاعلات سياسية في البنية التنظيمية لأحزاب المعارضة القانونية, يمكنها أن تفضي الي تعزيز تيار المقاطعة واليأس من المشاركة في العملية الانتخابية, وتصدع البنية التنظيمية لأحزاب المعارضة الذي يمكن أن يتمثل إن عاجلا أو آجلا في انفضاض بعض الأعضاء عن أحزابهم, أو انشقاق مجموعات عن هذه الأحزاب وظهور قيادات جديدة عبر تحميل القيادات الحالية مسئولية ما آلت إليه المعارضة في هذه الانتخابات, وجميع هذه التفاعلات ستذهب نتائجها الي إضعاف وإرباك المعارضة وتقلص سطوتها علي جمهورها, ووضع المعارضة برمتها علي أبواب تغيير لا يمكن الجزم من الآن بما إذا كان سلبيا أو إيجابيا. فضلا عن ذلك فإن نتائج هذه الانتخابات لا تقتصر فحسب علي إضعاف المعارضة والتشكيك في مصداقيتها, بل هي تؤثر علي السياسة في مصر عموما باعتبار هذه الأخيرة, وفي حدودها الدنيا مشاركة جميع المواطنين الأحرار في تقرير مصيرهم ومستقبلهم, إن عبر صناديق الانتخاب أو عبر الانخراط في أحزاب ومشروعات سياسية تعكس مطالبهم وتطلعاتهم بطرق سلمية وقانونية. ذلك أن نسبة من شاركوا في الإدلاء بأصواتهم في هذه الانتخابات من الناخبين المقيدين لم تتجاوز في أفضل التقديرات الرسمية(%35) من عدد المقيدين في الجداول الانتخابية, إذا تجاوزنا النسبة التي تدعمها تقارير منظمات المجتمع المدني وهي%15 من عدد المقيدين بالكشوف الانتخابية, وهذا يعني أن عدد من صوتوا في هذه الانتخابات يدور حول ثلث عدد المسجلين, وأما الثلثان الآخران من المواطنين المسجلين في كشوف الانتخابات, فقد بقوا في منازلهم ولم يذهبوا للجان الاقتراع ولم تفلح الدعاية الرسمية وغير الرسمية في حملهم علي المشاركة في الاقتراع. الحال أن هذه النسبة المرتفعة لغير المشاركين في العملية الانتخابية, والتي احتفظت بمواقعها عبر العديد من الانتخابات التي جرت في الفترة الأخيرة, تلقي بظلال كئيبة علي مستقبل البلاد السياسي وتقلص التمثيلية عن المؤسسات التي تتشكل عبر الانتخابات. وبرغم الخطاب الذي رافق العملية الانتخابية خاصة من قبل الحزب الوطني والحكومة فإن نسبة المشاركة لم ترتفع عن سابقاتها, وقد حظي هذا الخطاب بمفردات ومفاهيم وتراكيب لغوية لا يختلف حول مدلولها أحد في العاملين مثل التنافسية والشفافية والنزاهة والاحتكام للقضاء والقانون والبت في الشكاوي والتجاوزات والانتهاكات.. وغير ذلك من المفاهيم الحديثة والديمقراطية, ومع ذلك فإن هذه المفاهيم لم تستطع جذب الناخبين الي حلبة المشاركة وكأن هذه المفاهيم هي مجرد لغة وكلام لا علاقة له بالواقع, وربما عزز من ذلك التجاوزات والانتهاكات التي ساقتها العديد من المنظمات والعديد من المراقبين في عدد كبير من الدوائر الانتخابية. لم يكتف الخطاب الرسمي الذي رافق عملية الانتخابات باستعارة مفردات الحداثة السياسية وكأننا امتلكنا ناصية هذه الحداثة, بل عمدت الممارسة السياسية الرسمية المتعلقة بالانتخابات باقتباس أدوات الحداثة السياسية أيضا, أقصد الصندوق الزجاجي الشفاف والحبر الفوسفوري وجداول الناخبين المقيدين في الدوائر الانتخابية والتوكيلات لمندوبي المرشحين وتصاريح المراقبين المدنيين وبرغم الحبكة التي ميزت استعارة المفاهيم الحديثة والأدوات الشكلية للحداثة السياسية فإن مضمون ومحتوي العملية الانتخابية بل ونتائجها ظل بعيدا عن روح هذه الحداثة, وبمنأي عن جوهرها وتجلياتها العملية. لقد عادت نتائج هذه الانتخابات بخطاب الإصلاح السياسي خطوات الي الوراء, إذ لم يعد بمقدور هذا الخطاب التبشير بالإصلاح في حدوده الدنيا, وأصبح هذا الخطاب يقف متناقضا مع التوجهات السياسية الحالية التي تعزز احتكار الحزب الحاكم للسياسة ومقاليد الأمور في جميع المستويات التشريعية والمحلية والرئاسية والتنفيذية, تلك السياسة التي جعلت من عملية الانتخابات مجرد أدوار معدة سلفا يقوم بها أصحابها وفق أجندة خاصة دون اكتراث بنتائجها, بل دون مبالاة بتداعياتها في المنظور المتوسط والمنظور بعيد المدي, أدوار مترابطة سياسيا وقانونيا وإعلاميا ودعائيا وكأن أصحابها قد أدوا هذه الأدوار مرارا وتكرارا ويعرفون تفاصيل أدوارهم عن ظهر قلب. اللافت للنظر أن العديد من المسئولين قد أقروا بوقوع بعض التجاوزات والانتهاكات في العملية الانتخابية, ولكن تبرير وقوع هذه التجاوزات اتخذ شكلا غريبا وغير ملائم, فقد أحتج بعض هؤلاء بأن التجربة جديدة, أي تجربة اللجنة العليا للانتخابات وأننا نتعلم ومازلنا في طور التجريب, وهذا التبرير يعتبر عملية الانتخابات كما لو كانت ألغازا تستعصي شفرتها علي المعرفة وأن دولة بحجم مصر ومكانتها وتاريخها بين الأمم لا تجيد إجراء مثل هذه العملية, وهو الأمر الذي يتناقض مع التاريخ البرلماني لهذا البلد في المنطقة, وحقيقة قيام بلدان صغيرة للغاية تكاد لا تري علي الخريطة بإجراء الانتخابات وإتقان هذه العملية تماما كتلك البلدان التي شهدت مولد الحداثة السياسية والقانونية بجميع أشكالها بل ولم يشك المسئولون في هذه البلدان من صعوبة تلك العملية, أي عملية الانتخابات. لقد أسفرت نتائج هذه الانتخابات عن مرحلة جديدة تماما في العمل السياسي رسمت معالمها بإحكام وبدقة هندسية فاقت كل التوقعات, أهم قسمات هذه المرحلة هو أن يحكم الحزب الوطني دون معارضة فاعلة, ودون اكتراث بصدقيته في الداخل والخارج, ويبدو الأمر وكأن المعارضة أصبحت عبئا عليه لا طائل من وجودها, وأن الحزب الوطني قد دخل مرحلة القطيعة مع تلك المرحلة التي سبقت, والتي كانت تضمن تمثيلا مقبولا للمعارضة, إذ يبدو الحزب وكأنه قد تخلص من تلك الضريبة التي كانت مفروضة عليه بحكم التوازنات واعتبارات المقبولية والمصداقية, وأنه في حل من تحمل تبعة هذه الاعتبارات منذ الآن. إن إضعاف المعارضة وشرعيتها وتمثيلها يفتح الباب أمام حركات الاحتجاج غير المنظمة والتي لن تمر عبر القنوات الشرعية للمعارضة, لأن الفراغ الذي سيحدثه ضعف المعارضة ستشغله هذه الحركات, وليس هناك من ضمانات قانونية وديمقراطية تلبي مطالب هذه الحركات, وتتصاعد حينئذ احتمالات الصدام والتوتر. من بين قسمات ومعالم هذه المرحلة الجديدة أيضا زوال الأوهام عن احتمالات التطور السياسي والإصلاحي في ظل الحزب الوطني, حيث قدم الحزب أفضل ما لديه, بل وربما أقصي ما لديه, وهو الأمر الذي سيحمل الكثير والعديد من الناشطين السياسيين علي صرف الأنظار عن الحوار مع الحزب الحاكم حيث يفقد الحوار جدواه ومصداقيته كذلك, وفي ذات السياق فإن أوهام الصفقات مع الحزب الوطني أو إمكانية عقد الصفقات الانتخابية وغير الانتخابية معه هي مجرد أضغاث أحلام لا علاقة لها بالواقع, فالحزب الوطني سعيد باحتكاره المسرح السياسي وفي غني عن الصفقات التي كثر الحديث عنها قبل إجراء الانتخابات. لم يعد أمام المعارضة السياسية والقوي السياسية الرسمية وغير الرسمية سوي القضاء والمحاكم وملاحقة المجلس الجديد بدعاوي البطلان والإلغاء, وهي مسالك بطبيعتها طويلة ومعقدة وتحتمل التأويلات ما لم تحدث معجزة أخري لا يدري أحد متي وكيف تحدث, وحقيقة الأمر أن فوز الحزب الوطني علي هذا النحو قد أوجد معضلات سياسية شتي لا نعرف كيف تجد طريقها الي الحل. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد