يحتفل العالم بأسره في التاسع من ديسمبر من كل عام باليوم العالمي لمكافحة الفساد, حيث يواكب هذا اليوم تاريخ التوقيع علي اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد عام2003, التي دخلت حيز التنفيذ في.2005 وهكذا تحولت هذه القضية من هاجس وطني داخلي إلي قضية عالمية ودولية, ولذلك لم يكن مستغربا أن تخصص مجموعة العشرين في قمتها التي عقدت بسيول أخيرا, ملحقا كاملا لمناقشة هذا الموضوع بكل أبعاده وقضاياه, وذلك بعد أن اتضح لهم أن ما يحدث بالأسواق المالية العالمية, والبلدان الأوروبية من أزمات مالية كادت تعصف بها, يرجع بالأساس إلي غياب الشفافية والفساد... وهكذا أصبح الفساد ظاهرة عالمية ومجتمعية ذات أبعاد متعددة سياسية وثقافية وأخلاقية وقانونية. وقد دخلت الاتفاقية مرحلة جديدة ومهمة, وذلك عقب مؤتمر الدوحة نوفمبر9002 الذي أنشأ آلية مراجعة التنفيذ, والتي تعتمد للمرة الأولي علي مراقبة الدول لبعضها البعض, مع ملاحظة أن الغرض هنا هو متابعة مدي التزام الدولة بتطبيق الاتفاقية, ولا تستخدم كأداة للتدخل في الشئون الداخلية للدول, خاصة أنها آلية حكومية, وبالتالي لن يترتب عليها أي درجات من الترتيب التصنيفي للدول, مثلما يتم في بعض المؤسسات الدولية مثل تقرير منظمة الشفافية الدولية, وبهذه الآلية تكون الدول قد انتقلت نقلة موضوعية نحو جعل مكافحة الفساد جزءا لا يتجزأ من سياستها الداخلية, وبالتالي الانتقال من ثقافة قبول الفساد إلي ثقافة مغايرة تنبذ الفساد وتدينه, وهي مرحلة شاقة وطويلة تقوم علي الارتقاء بمستوي الوعي العام عن طريق التوعية المستمرة ووضع مناهج تدريبية وتعليمية مع تنقية القوانين المحلية مما يعوق هذه العملية. من هذا المنطلق نفذت مصر مجموعة من السياسات والإجراءات لتحقيق ما تصبو إليه الاتفاقية من أهداف, حيث حرص المشرع المصري منذ البداية علي الحد من إمكانية تعارض المصالح أو وقوع تحالف غير مأمون بين المصالح المادية الشخصية واستغلال المناصب في فرض السلطة, وذلك عبر النصوص الحادة والواضحة في القوانين المعمول بها بدءا من الدستور وانتهاء بقانون العاملين المدنيين بالدولة مرورا بالقوانين الأخري مثل المناقصات والمزايدات والكسب غير المشروع وغيرهما. في هذا السياق تم انشاء وتشكيل لجنة الشفافية والنزاهة بموجب قرار وزير الدولة للتنمية الإدارية عام7002 تضم أعضاء من كل الاتجاهات السياسية والتيارات الفكرية, وهم لا يتلقون أي مكافآت أو بدلات حضور لاجتماعات اللجنة, ودورها هو دراسة واقتراح آليات تعزيز الشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد بوحدات الجهاز الإداري للدولة بالتنسيق والتعاون الكامل مع الاجهزة المعنية بالدولة, ورصد ومراقبة ظواهر الفساد الإداري ومتابعة التزامات مصر الدولية في هذا الصدد. وقد اضطلعت اللجنة بالأدوار التنسيقية المنوطة بها سواء مع الجهات الداخلية المعنية أو الجهات الدولية, كما نسقت مع الأجهزة الرقابية المعنية من حيث إمدادها بالمعلومات الخاصة بآليات مراجعة اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد, وقامت اللجنة باقتراح عدد من الآليات لتطوير نظام الوظيفة العامة, وانتهت من مشروع مدونة سلوك موظفي الخدمة المدنية, كما اقترحت نظام وآلية المفوض العام كوسيلة لتلقي شكاوي المواطنين ومتابعتها مع الجهاز الإداري للدولة, وقامت باقتراح مراجعة واستكمال الإطار التشريعي لحماية الشهود والمبلغين في قضايا الفساد. وقد صدر قرار رئيس مجلس الوزراء أخيرا بتشكيل اللجنة القومية للشفافية, وهي لجنة حكومية بالكامل تضم كل الأجهزة الحكومية المعنية بهذا الموضوع, وتعد نقطة الاتصال بين الحكومة والمجتمع الدولي. وعلي الجانب الآخر فقد شهد المجتمع المصري العديد من الجهود الخاصة بزيادة الشفافية يأتي علي رأسها تمكين البرلمان من المشاركة في تحديد أولويات الموازنة والرقابة الفاعلة عليها, وذلك وفقا لما جاءت به التعديلات الدستورية الأخيرة, وكذلك التعديلات التي أقرها القانون رقم78 لسنة5002, والإجراءات الأخري التي اتخذتها وزارة المالية في السنوات الأخيرة, حيث أسفرت تلك التعديلات والإجراءات عن عدة نتائج إيجابية, فيما يتعلق بشفافية الموازنة, وتفعيل المشاركة في عملياتها, كما أرست حق البرلمان في تعديل الموازنة العامة وفقا لضوابط تتيح التوازن بين تفعيل المساءلة البرلمانية للحكومة وحق البرلمان في إعادة ترتيب أولويات الانفاق العام بصورة أفضل من ناحية, وبين تحقيق الرشادة الاقتصادية والمحافظة علي التوازن المالي العام من ناحية أخري. يضاف إلي ما سبق بدء شغل وظائف الإدارة بالتعيين أو التعاقدات من خلال إعلان يوجه إلي الكافة, وذلك لإسباغ قدر أكبر من المساواة وتكافؤ الفرص علي آليات التعاقدات أسوة بالتعيين, وهو ما جعل مشروع قانون الوظيفة العامة يتخذ منها منهجية عمل ومرجعية لتعزيز الخدمة المدنية العامة, وترسيخ محددات الالتحاق بالعمل الوظيفي ومحدداته في إطار من الشفافية والنزاهة والتجرد للصالح العام. وفي إطار إرساء مبدأ الشفافية والنزاهة في الجهاز الحكومي وترشيد الانفاق الحكومي صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم33 لسنة0102 بشأن إلزام الجهات المختلفة بنشر كراسات الشروط والمواصفات الخاصة بالمناقصات والمزايدات التي تقوم بطرحها علي بوابة المشتريات الحكومية إلكترونيا, وكذلك كل ما يطرأ من تعديلات, وذلك دون الإخلال بالإعلان عنها بالطريق الذي حدده قانون المناقصات والمزايدات, علي أن يتضمن النشر كل البيانات التي يتم الإعلان عنها في الصحف, وهو ما يرسي آلية للمتابعة والرقابة في هذا المجال يلعب فيها المجتمع المدني دور الرقيب من خلال نشر قرارات التعاقد والترسية. وعلي الرغم من هذه الجهود فإن هناك العديد من المجالات التي ينبغي العمل فيها بعضها يتعلق بالأوضاع الحالية والبعض يتطلب إدخال تشريعات جديدة في المجتمع, يأتي علي رأسها تدعيم الأطر المؤسسية الناظمة لآليات السوق, وتمكن المواطن من التعامل السليم مع الأجهزة الحكومية ومسألتها ومحاسبتها, وتعزيز الحكم الديمقراطي الرشيد في الحياة الاقتصادية, وهذا هو جوهر التوجهات والسياسات الجديدة للإصلاح الإداري والمتعلقة بضبط المشتريات الحكومية والمناقصات العامة, والحد من مخاطر التواطؤ, وذلك عن طريق توافر كل المعلومات اللازمة عند طرح المناقصة أو الممارسة الحكومية مع تجنب وضع الحواجز غير الضرورية التي قد تقلل من عدد مقدمي العطاءات عن طريق وضع حدود دنيا من الشروط تتناسب مع حجم ومحتوي العقود. كما يجب العمل علي إنشاء آلية منظمة وفاعلة لتقديم الشكاوي من جانب الشركات للإبلاغ عن أي مشكلة تتعلق بالشفافية أو الممارسة مع الأخذ بالحسبان وجود نظام لحماية الشهود والمبلغين, ووضع اطر وقواعد واضحة تضمن لكل الأطراف حقوقها وتتيح تأدية الخدمة الحكومية في أقصر وقت, وبأقل تكلفة وبأعلي مستوي من الإنتاجية, وإحكام الرقابة والسيطرة التنظيمية علي الأسواق, بما يرفع من كفاءة الخدمة العامة, ويقضي علي الممارسات السلبية, ويتيح العمل في إطار مؤسسي وفقا لقواعد ومعايير محددة فنيا واقتصاديا وماليا مع الإسراع بإصدار قانون جديد للمعلومات يتيح الفرصة كاملة للحصول علي البيانات والمعلومات الصحيحة مع مراعاة التوازن الدقيق بين حرية تداول المعلومات والأمور المرتبطة بالأمن القومي للدولة أو لصون صحة الأفراد وحقوقهم وإنشاء آلية قانونية لتنظيم حصول الأفراد علي المعلومات, ويمكن أن يتم ذلك إما بإنشاء جهاز جديد يناط به هذه العملية برمتها أو تعديل الوضع الحالي لأحد الأجهزة القائمة لتتولي هذا الموضوع, وهنا نقترح أن يكون ذلك هو الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء مع تعديله, بحيث يتم الفصل بين الإحصاء والتعبئة, إذ أن لكل منهما وظيفة مختلفة تماما عن الأخري. وإدخال التعديلات التشريعية المحققة لذلك.