القاعدة المستخلصة من تجارب الدول والشعوب, والمستقرة في علم السياسة, أنه لا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية.. أحزاب قادرة علي التنافس من موقع الندية كن الأحزاب مثلها مثل أي كيانات أخري في هذا العصر, تواجهها تحديات مستجدة, يمكن أن تؤدي الي تراجع دورها لحساب أشكال أخري للعمل السياسي, تتمثل في المجتمع المدني. يحدث هذا نتيجة تطورات متلاحقة جلبها معه عصر ثورة المعلومات, وتغير المزاج النفسي لعموم الناس, واكتسابهم ثقافة مغايرة, تباعد أحيانا بين المواطن, وبين كثير من التقاليد القديمة التي عرفها العمل السياسي, وهو أمر يقتضي اعادة بناء الأحزاب. بداية لماذا ظهرت الأحزاب السياسية أصلا؟ أن الأحزاب نشأت في القرن التاسع عشر باعتبارها تمثل مصالح الجماهير, وكيانات تنشط في صفوف الرأي العام, تأخذ منه وتعطيه بمعني أنها تستلهم فكرها من حركته المجتمعية, وأنها تضفي عليه من الحيوية والطاقة ما يجعله فاعلا, ومجردا من اللامبالاة. وهذا يتأتي من قدرة الحزب علي أن تتشكل له أساسا رؤية سياسية اجتماعية, حول القضايا التي يواجهها الوطن, ويكون مستوعبا لواقع التحولات المحيطة بالوطن في الداخل, ومن حوله اقليميا ودوليا, ثم قدرته علي صياغة أجندة لوضع هذه الرؤية موضع التنفيذ. وتمارس الأحزاب دورها في قلب الاطار العام للعملية السياسية القائمة علي التعددية, وضمنها الانتخابات. هذا بشكل عام, وبالنسبة لمصر, فقد نشأ فيها أول حزب سياسي عام5781, لكن الحياة الحزبية الصحيحة لم تنشأ إلا بعد تكوين مصطفي كامل الحزب الوطني عام7091, ثم توالي ظهور الأحزاب. ودائما كان هناك ارتباط بين وجود الحزب, وبين انتمائه للمشروع القومي, والذي دخلت في تياره جميع القوي الوطنية, وهو الاستقلال الوطني والتخلص من الاحتلال, وحيث ان الانتماء هو تعبير عن وعي قومي, بترابط سلامة ووجود الكل معا لتحقيق هدف المرحلة الزمنية. توالت الحقب الزمنية, ودخل العالم عصر ثورة المعلومات, والتأقلم مع آلياتها, التي أزاحت الحواجز بين الدول والشعوب, بحيث صار ما يفصل بينها مجرد نوافذ تطل منها علي بعضها, ودخولها حالة التأثر والتأثير المتبادلين, علي الفكر, والاحتياجات, والمطالب, وصاحب ذلك انقلاب المفاهيم السياسية التي ظلت لقرون تحكم العملية السياسية. فلم تعد الديمقراطية مجرد شكل لنظام سياسي, بل تشعبت معانيها ومفرداتها, وتداخلها في مجمل أوضاع المجتمع: من التنمية, وحل مشاكل البطالة, والارتقاء بمهارات البشر, وتكريس غريزة الانتماء, وإعلاء شأن القانون, ألا ان الديمقراطية زحفت الي منطقة المشاكل المعيشية, فضلا عن دور الديمقراطية كمدخل الي اكتساب القدرة الاقتصادية التنافسية للدولة, والتي صارت بدورها علي قمة مكونات الأمن القومي للدولة, في مسار شمل تغير مفهوم الأمن القومي, والأمن العالمي, الذي يأخذ به الآن المجتمع الدولي بصورة عامة. في هذا الاطار ظهر ان عدم قدرة الأحزاب في بعض البلاد, علي التكيف مع هذه المتغيرات, قد بدأ يسحب من مساحة الأرض التي تقف عليها, لتزاحمها فيها حركات سياسية, بعضها احتجاجي ثم ينفض, وبعضها منظم له صفة الاستمرارية. ويلاحظ هذا التحول في الولاياتالمتحدة علي وجه الخصوص, ففي انتخابات الكونجرس الأخيرة0102, كانت هناك كتلة تصويتية حجمها02% من اجمالي الناخبين, دخلت انتخابات الرئاسة عام8002, تحت مظلة الحزب الديمقراطي, مساندة لفوز أوباما, وهذه الكتلة التي ظهرت في البداية مستقلة عن الأحزاب, فإنها مثلما دعمت أوباما يومها, تعبيرا عن احباطها من تقاعس العملية السياسية الحزبية, عن إحداث التغيير الذي اقتنعت به, كانت هي نفسها التي صوتت لصالح الجمهوريين ليفوزوا بالأغلبية في مجلس النواب0102, رغم عدم موافقتها أساسا علي برنامج الحزب الجمهوري, لكنه فعل مؤثر تحرك بدافع من المزاج النفسي والسياسي المتغير. ولعل ذلك كان أحد الدوافع وراء ظهور الحركات النشيطة في مصر في السنوات القليلة الماضية, بعيدا عن دنيا الأحزاب, بالاضافة الي أسباب أخري تتعلق بخصوصية الواقع السياسي والاجتماعي المصري. وسنلاحظ أن المجتمع المصري قد عرف ظاهرة تاريخية مشابهة, فحين لا يعجبه الحال, فهو يعطيه ظهره كموقف احتجاجي, يظهر مثلا في الإعراض عن التصويت في الانتخابات, وعندما تشتد عليه ضغوط الحياة المعيشية, فهو يشق لنفسه مجري لحياته تحت السطح, يديره بطريقته, وهو ما رصدته بعض الدراسات, ولاحظت وجود عملية اقتصادية غير منظورة, تدار تعويضا عن مصاعب المعيشية. أن أكبر تحد للأحزاب الآن هو كيف تنزل الي مشاكل الناس مباشرة, وإثبات قدرتها علي إشباع حاجاتهم الأساسية فهذا هو أصلا السبب في قيام الأحزاب, فمثلا قد يلاقي المواطن مصاعب في نيل حقوق أساسية له, أو تعترض حياته عراقيل سواء بيروقراطية أو غير ذلك, لا يستطيع هو تذليلها, ونسأل ألا يمكن للأحزاب أن تقوم بالنسبة له بدور المحامي؟ هذا دور تفاصيله عديدة ومتشعبة, يحتاج دراسات واعية وتفصيلية, لكن الأهم ان تكون لدي الحزب رؤية واضحة متكاملة, تحيط بالواقع الراهن في مصر, وبالمتغيرات المتلاحقة في العالم, والذي نحن جزء منه, ولابد أن نتأثر بها. ويبقي انه لا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية قادرة علي أن تتنافس من موقع الندية.