أخيرا لمحات خاطفة من رؤيته لتجربته الشعرية العميقة, مقدمة لديوانه الثالث عشر المعنون تعالي إلي نزهة في الربيع, وأحسب أن هذه اللمحات علي وضاءتها لاتكفي لاحتواء تحولات عالمه الشعري الرحب ولا رصد خمائره الأساسية. فتجربته المتوترة دارسا في الأزهر, ولاجئا أدبيا كما كنا نسميه في دار العلوم, وعضوا نشطا في مجموعة يطلق عليها تسمية شعراء القلعة ومحنة عمله في المطبخ الإعلامي, وتلمذته الحرة للويس عوض, ومحاولاته الدرامية المحبطة, وصراعاته الصامتة الوديعة بين ذئاب جيل الستينيات, وتحرش رفاقه بالمنافسة مع أمل دنقل, وفواجعه الشخصية, وفزعه من المهاجر العربية, كل ذلك وغيره من التفاصيل الحميمية يتطلب منه شجاعة فائقة في الكتابة, خاصة بعد أن أصبح أبو سنة مع قلة من الإعلام يتربع علي ذروة هرم الإبداع الشعري في مصر, فصار محصنا لا ينقص منه الاعتراف ولا يحرجه الصدق, ولا تكفي مثل هذه اللمحات الشحيحة في تغطية جروحه واجتراحاته, ورسم الإيقاعات العميقة لمنجزه الشعري. من الذي اغترب ؟ فإذا تجاوزنا هذه المقدمة التي أعتبرها مجرد بداية متواضعة للبوح ودخلنا في القصائد السبع التي كتبها خلال السنوات القلية الماضية انتبهنا إلي أن تقاطر الشعر لديه قد انتظم طوال عمره بمعدل ديوان كل ثلاث سنوات منذ بدايته الواعدة في الستينيات, وأن خسارة المسرح الشعري فيه كبيرة, فهو لم يستوعب مكر الداهية توفيق الحكيم الذي فصل بشكل قاطع بين فعل الكتابة المسرحية التي يملكه ويتحكم فيه, وسوق العرض التي تخضع لتقلبات السياسة الثقافية ومزاج أجهزتها وصناعتها. وكانت هذه المشكلة أيضا السبب في عزوف الشرقاوي عن الاستمرار في الكتابة الشعرية للمسرح وفي إحباط مشروع أبو سنة الذي تأهب له ولم يكتمل. لكن تظل قصائد أبو سنة المتوهجة بشعرية الحياة المصرية, والمفعمة برحيق المزاج المؤلف من عناصر اللغة والموسيقي والخيال والتجربةب علي حد وعيه الثاقب بطبيعته وتحديده لها في السطر الأول من مقدمته هي التي ينبغي أن نستحضرها ونستمتع بها منه ونقرأ في ضوئها من شفرات قصائده التي تنبثق من طين مصر لتعبر عن وجدانها في تحولاته الكبري, يهدي الشاعر قصيدته بعنوان: من الذي اغترب؟ إلي قريته الودي في الجيزة فيقول لها: من الذي اغترب؟/ وأغلق الفضاء خلفه وأمطرت في عينه السحب.. أنا أم الصبية/ العجوز في رواقها/ القديم تنتحب تقلب الأوراق/ والوجوه والأقدار/ ثم تدفن الحقب.. من الذي اغترب/ يا قريتي التي أحملها ما بين أضلعي/ تفاحة من الذهب! أنا وأنت/ قصة تبددت/ يلفنا الذهول وسط عالم من الكذب/ وجهان ذابلان ذاهلان في مواكب العجب/ كلاهما اغترب.. ومع أن لذع الشعور بالاغتراب المزدوج كان أثيرا لدي شعراء التيارات الوجدانية, فإنه يكتسب هنا صبغة مكثفة تتجاوز الحس الرومانسي, لتشمل في رؤيتها تحولات المكان, عندما تذهل القرية المصرية عن واقعها الزراعي وتتشوه طبيعتها النقية وهي تصارع القدر فلا تتصحر ولا تتحضر ولا يستقر لها مقام بين الريف والمدينة. لكن ما يميز كلمات أبوسنة النضرة إنما هو امتلاؤها برحيق الموسيقي ونكهة الأرض الفواحة, واتساق الجمل وهي تتكشف عن صور مركبة للقرية الصبية والعجوز وهو تطوي الأحقاب, بينما تتبلور في روح الشاعر أليفة محبة بارقة مثل تفاحة من الذهب قبل أن يلفها الذهول في مواكب العجب. علم القلب: الطريف أن لكل منا عند قراءة الشعر اختياراته, والقصيدة التي أفضلها في هذا الديوان تكلفني مشقة في تبرير اختيارها, فكل النقاد خاصة الحداثيين ينفرون من النبرة التقديرية المباشرة في الشعر, ويفضلون شيئا من الغموض والإيحاء وتعدد المعني, لكن قصيدة علم القلب علمت قلبي وهي تقول لي ولكل قارئ: علم القلب الثبات/ فالذي لا شك يأتي/ هو آت والذي فات ابكه ما شئت فات إن نهرا جف لاتغريه أشواق البنات علم القلب الثبات/ حين تأتي العاصفات واطرح الخوف من الليل/ وحدق في ظلام عابر وتأمل/ كيف تنمو الأمنيات في صباح أبيض/ مثل جواد راكض عبر فجاج الفلوات والقصيدة أنشودة للصلابة والحكمة, واستثارة عزيمة الإنسان وإرادته في إدارة صراعات الحياة, يتغني بها أشد الناس وداعة وأحلاهم هشاشة, وأحوجهم إلي تدريب الروح في خريف العمر علي مجابهة الحادثات, خاصة الفقد وعذاباته. وميزة الشعر العظيم أنه يمنح كل قارئ فرصة لإنتاج دلالته من الأبيات التي يقرأها, فهو قرين التأويل, وخصوبته تكمن في احتمالات تعدد معناه وصدقه في جميع الأحوال. وعلي الرغم من أن الشاعر يختار تسمية لديوانه عنوان قصيدة أخري تدعو إلي نزهة في الربيع, لقطف الأغاني التي أوشكت أن تضيع فإن القارئ المتعاطف معه مثلي لدرجة التواطؤ لا يملك إلا الرابط بين الطرفين, وقراءة الخريف في حكمة الربيع, واعتبار النزهة الحقيقية إنما هي في رياض الشعر الذي سبق تعيين أبوسنة بستانيا محترفا لها, يربي قصائده ويرويها بذوب روحه النقية, ولغته المضمخة بعطر الموسيقي, ورؤيته الموصلة بأسرار الوجود.