النمور الأسيوية..تذكرت هذا الوصف عندما وطأت قدماي أرض تايبي عاصمة تايوان, استجابة لدعوة من مركز الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة شينجي الوطنية. للمشاركة في ندوة الحوار التايواني-العربي من25 إلي27 نوفمبر الماضي في حضور خبراء من مصر والأردن والمملكة العربية السعودية ولبنان وفلسطين, ووسط تجمع واسع من طلاب الجامعة وأساتذتها والمتخصصين في اللغة العربية والثقافة الإسلامية. وكان وصف النمور الأسيوية قد ذاع واشتهر في تسعينيات القرن الماضي لأربعة اقتصاديات كانت بازغة هي هونج كونج وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان تميزت بمعدلات نمو صاروخية, وتصنيع حديث متقدم يعتمد في الأساس علي تكنولوجيا الإلكترونيات والمعلومات. ولم يقتصر الوصف وقتها علي كلمة النمور بل وصل إلي حد وصفها بالمعجزة التايوانية حيث صارت نموذجا يحتذي به في كثير من الدول النامية. ويفصل تايوان عن القارة الآسيوية مضيق تايوان عرضه120 كم من الساحل الصيني, وقد شهد هذا المضيق كثيرا من التحرشات بين الصين الشعبية وتايوان مع وجود الولاياتالمتحدة العسكري في تلك المنطقة الحساسة, وفي إطار مسئولياتها الإقليمية والدولية للدفاع عن أمن اليابان وكوريا الجنوبية. وتصل مساحة تايوان إلي حوالي36000 كيلومتر مربع يعيش فوقها23 مليون نسمة تقريبا حيث تصل الكثافة السكانية إلي668 مواطن لكل كيلومتر مربع, وهي كثافة عالية مقارنة بدول أخري. وتايوان عضو في منظمة التجارة العالمية منذ2001, وتعتمد الزراعة التايوانية علي الأرز والفواكه والشاي. أما مصادر الطاقة فتلجأ تايوان من أجل توليد الكهرباء إلي الفحم بنسبة55%, وعلي الغاز الطبيعي بنسبة17%, بالإضافة إلي5% من النفط و5% من مصادر الطاقة المتجددة بما في ذلك الطاقة الشمسية, والهدف الوصول بالأخيرة إلي10% من مجمل إنتاج الطاقة في تايوان. وتتميز تايوان أيضا بطاقة الرياح بالقرب من شواطئها الممتدة. وقد أتيح لنا خلال تواجدنا في تابيي زيارة إحدي الشركات الكبري في مجال تكنولوجيا الطاقة الشمسية حيث يغطي نشاط هذه الشركة كل مراحل التصنيع من إنتاج الخلايا الشمسية من موادها الأساسية إلي إنشاء وحدات توليد الطاقة الكهربية علي نطاق واسع. وعلي المستوي السياحي تفتخر تايوان ببرجها العالي المكون من101 طابقا. ويعتبر هذا البرج أعلي برج في العالم بارتفاع508 متر, وقد يكون الثاني الآن بعد الانتهاء من برج خليفة في دبي بدولة الإمارات العربية. وحتي نعرف مدي التقدم في الاقتصاد التيواني فقد كان قريبا في عام1962 من اقتصاديات زائير والكونجو حيث لم يتعد نصيب الفرد الواحد أكثر من170$ في السنة, ثم أصبح الآن في2008 يماثل القدرة الشرائية للفرد في الدول المتقدمة بقيمة33000 دولارا. وتتبني تايوان الآن اقتصادا نشطا ومتكيفا معا النظام الاقتصادي العالمي بمعدل نمو متوسط ومستقر بقيمة8% خلال ثلاثة عقود متتالية, كما أنها تمتلك احتياطيات مالية ترشحها للمركز الخامس علي مستوي العالم في هذا المجال. وعلي مستوي الصناعة حدث في تايوان تحول جذري من الاهتمام بالصناعات المعتمدة علي أعداد كبيرة من البشر إلي صناعات تعتمد في الأساس علي التكنولوجيات المتقدمة, وقد دفعها هذا التغير إلي الاستثمار في الصين وتايلاند وإندونيسيا والفلبين وماليزيا وفيتنام, ويعتقد أن أعدادا كبيرة متزايدة من رجال الأعمال التايوانيين يستثمرون ويعملون علي أرض الصين الأم. كل ذلك كان مقدمة لتحول آخر كبير تحقق في29 يونيو2010 بالتوقيع علي اتفاقية إطار للتعاون الاقتصاديTheEconomicCooperationFrameworkAgreement(ECFA) بين الصين وتايوان تهدف إلي زيادة التبادل التجاري من خلال خفض الرسوم علي الجانبين, وتشجيع الاستثمار المشترك. وتعتبر هذه الاتفاقية الأهم بين الجانبين منذ الحرب الأهلية وانشطار الصين إلي بلدين في.1949 ويعتقد أن هذه الاتفاقية سوف تضاعف التبادل التجاري بين البلدين عدة مرات من قيمته الحالية التي تصل إلي حوالي110 بليون دولار في السنة. وقد كانت هذه الاتفاقية موضع نقاش في جلسة خاصة بين الخبراء الاقتصاديين في تايوان والمشاركين في مؤتمر الحوار التايواني العربي حيث أنها رفعت الحرج عن الدول العربية في تعاملها التجاري والسياسي مع تايوان من جهة وغيرت مسار العلاقات بين تايوان والصين من جهة أخري. ويمكن القول أن عنصر المصلحة الاقتصادية قد صار هو العنصر الحاكم في تطوير العلاقات البينية علي أكثر من مستوي بالنسبة لتايوان, وشحبت النقاشات السياسية القائمة علي نزاعات تاريخية لم يعد لها قيمة في عصر العولمة الحالي حيث ملايين الفرص تتوالد في كل لحظة ولم يعد مجديا التشبث بما حدث من قبل بل الاندفاع إلي آفاق أرحب وأوسع كثيرا من أفق النزاع الصيني-التايواني. ومن الجلي أن سحر الاقتصاد سوف يصبح المحدد للعلاقات التايوانية مع الصين الأم ومع العالم كله. وقد حرص المخططون لندوة الحوار التايواني-العربي علي تبين الحقائق ووجهات النظر من خلال الخبراء المشاركين والقادمين من البلاد العربية والإسلامية فيما يتصل بالمناخ السياسي والاقتصادي والأمني في منطقة الشرق الأوسط الذي أصبحت عاملا لا يمكن تجاهله في تقييم مستقبل الاستقرار العالمي. فدولة صغيرة مثل تايوان, المعنية بشدة بالتصدير في مجالات التكنولوجيا المتقدمة, تري أن استقرار الشرق الأوسط متصل باستقرار المناخ الاقتصادي العالمي. لذلك تضمن مؤتمر الحوار علي جلسات شملت مستقبل الأمن في الشرق الأوسط من خلال أوراق بحثية عن طبيعة العلاقات بين الولاياتالمتحدةوإيران, واحتمالات أن تتحول الجهود الإيرانية النووية إلي صراع مسلح مع أطراف دولية أو إقليمية مثل إسرائيل, ومدي إمكانية إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وكل أسلحة الدمار الشامل. ومن هذه الزاوية انطلق الحوار إلي مناطق نزاعات أخري مثل مشكلة جزر الخليج العربية التي استولت عليها إيران ومدي شرعية ذلك حتي وصل النقاش إلي النزاع الدائر في الصحراء المغربية وتأثيرها علي السلام العربي والإفريقي. وكان من الضروري أن تتجه ندوة الحوار إلي مشروع إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية, ومدي ما تحقق من تقدم في هذا الشأن منذ أن نشأت الفكرة في1974 ولم تتقدم حتي الآن إلي واقع ملموس. وفي جلسة مستقلة ناقش الحوار مشروعا آخر متصل بإقامة علاقات تعاونية وأمنية علي مستوي الشرق الأوسط بكل دوله علي نمط ما تحقق من قبل علي المستوي الأوروبي والأسيوي في أكثر من منطقة. وهذا المشروع كان مطروحا علي دول الشرق الأوسط في تسعينيات القرن الماضي, لذلك ناقشت الندوة إمكانية تجديده مرة أخري آخذين في الاعتبار كل المتغيرات الجذرية التي جرت علي ساحة الشرق الأوسط والعالم. ولم تتجاهل الندوة البعد الثقافي ودوره في تحقيق الاستقرار والأمن. وإذا كان سحر الاقتصاد قد أصبح عاملا رئيسيا في تحقيق الاستقرار والرخاء لتايوان, فإن سحر الثقافة سوف يصبح البعد التاني له في دعم العلاقات بين الدول. وفي الحقيقة لا يمكن تجاهل اهتمام تايوان والصين بتعلم اللغة العربية ودراسة الإسلام والقرآن في عالم تكتسح فيه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كل الحواجز والقيم القديمة البالية. المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد