وها قد بدأت وفود الحجيج العودة من تلك الرحلة المباركة.. آملين القبول والجزاء الأوفى.. فالكل يرجو رحمة ربه ومغفرته.. ويتمنى أن يكون الحج ميلاداً جديداً له.. لا تدنسه الذنوب والمعاصى.. غير أن الدنيا بشبهاتها وشهواتها.. سرعان ما تنسج شباكها الفاتنة الفانية لتسقط الطائعين.. وتلوث صحائف الحجاج البيضاء.. وفى لهفة وقلق يسأل العائد من الحج: كيف أنجو من تلك الفخاخ الماكرة.. ليكون حجى مبروراً بإذن الله؟ الدكتور عبدالله كامل إمام وخطيب وباحث إسلامي: يوضح أن الانتهاء من مناسك الحج ليست نهاية المطاف لمن وفقه الله ورزقه أداء هذا الركن العظيم. ولكن علامات الحج المبرور تتأكد بعد العودة والانخراط في أعمال الدنيا مرة ثانية.. ومن أبرز علامات القبول أن يكون الحاج بعد عودته أكثر قربا من الله وأكثر حبا للناس.. وأكثر همة للطاعة والعمل الصالح. ويضيف د.عبدالله كامل: أنه لكي يكون للحاج ذلك ويستفيد من حجه ما بقي له من العمر, يجب أن نأخذ من كل ركن وشعيرة أداها أثناء الحج الدروس والعبر التي يعد العمل بها علامة من علامات القبول.. ودرسا عمليا يتزود به لمجابهة معارك الحياة وفتن الدنيا والشيطان. فعليه أن يأخذ من التلبية سرعة الإقبال علي الله في كل شيء.. ويأخذ من الإحرام ترك المحرمات بل وكراهتها.. وأن يأخذ من الطواف دوام واستمرارية فعل الخير وعدم انقطاعه.. فدوام الطاعة دليل علي الصدق والحب لله عز وجل.. والذي لبي وطاف هو انسان محب لله.. لأن الإنسان لا يوالي ولا يطوف إلا بمن أحب. وعلي الحاج أيضا أن يأخذ من شرب ماء زمزم الحرص علي الحلال وترك الحرام, وأن يتجه بكل ما أوتي من رزق إلي إعمار الأرض وتحقيق الخلافة التي أرادها الله لبني آدم. وعليه كذلك أن يأخذ من السعي بين الصفا والمروة الاصرار علي الحق وبذل الجهد وانتظار الفرج.. فإن تحقق له مراده شكر الله.. وإن لم يتحقق سلم لمراد الله دون سخط أو حسد لأحد.. فهو يسعي بين جبلين.. بادئا بالصفاء والنقاء.. وينتهي إلي المروة( من الري.. أو الرؤية).. فأما أنه ارتوي فتحقق مراده.. وإما أنه في روية ومهل واصطبار حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا. وأن يأخذ الحاج من الوقوف بعرفة: الوقوف علي حدود الله.. وأن يجعل لقاء ربه ماثلا بين عينيه دائما.. فلقاء الله ودعاؤه والابتهال له مرافق للسعي وبذل الجهد واستفراغ الطاقة.. فلا كسل ولا تهاون.. ولا وقت يضيع.. فكل أوقات المؤمن مليئة بالخير ومشحونة بالمعروف. وفي النفرة إلي مزدلفة.. درس عظيم في شكر الله تعالي وكثرة ذكره.. كلما تحقق له أمل.. وكلما رزقه الله بنعمة فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم. ودرس أيضا في استقلال العبادة وتعظيم النعمة وتضخيم الذنب.. فيتعلم الحاج من مزدلفة إنكار الذات وما كان من خير فمن الله وحده.. وما كان من شر أو سوء فمن نفسه. وفي مني.. يتعلم الحاج خلع كل ما هو سييء من حياته.. فرمي الجمار ليس رمزا لإبليس والشيطان فحسب, بل هو رجم لكل عيب وترك لكل سوء والاصرار علي ذلك بتجديد التوبة لله تعالي. فرمي الجمار طاعة للرحمن وإرغام للشيطان.. وبعدها يذبح الحاج كل المعوقات التي تحول بينه وبين الطموح الطيب والعمل الصالح وعمارة الكون وبناء المجتمع.. حيث أيام مني.. أيام أكل وشرب وذكر لله تعالي.. فالنبي.. صلي الله عليه وسلم.. يعلمنا أن نحب الدنيا لنجعلها زادا للآخرة, لذلك يحذر في ختام أعمال الحج من الدعاء للدنيا فقط أو للآخرة فقط, بل حمد من قال.. ومنهم من يقول.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ويتوج الحاج رحلته المباركة بتأكيد اتباعه للنبي.. صلي الله عليه وسلم.. حين يزوره ويجدد عهده له ويسلم عليه.. ومع أن ذلك ليس من مناسك الحج, لكنه ذوق رفيع وأدب جم واعتراف بالفضل لصاحب الرسالة.. صلي الله عليه وسلم. ويختتم د.عبدالله كامل.. مؤكدا أنه إذا ما راعي العائد من الحج تلك الحكم الجليلة وظلت ماثلة في ذهنه وانعكست علي علاقته بالله وبالناس أجمعين.. كان حجه مبرورا وذنبه مغفورا بإذن الله.. وعاد من حجه كيوم ولدته أمه.. وساعتئذ يكون قلبه معلقا بالله وتهون عليه الدنيا بما فيها ومن فيها!