المياه هي سر اهتمام مصر بجنوب السودان... عبارة لابد وأن تتردد أمامك كثيرا طالما كنت مصريا في جنوب السودان. والحقيقة أن مياه نهر النيل تمثل رابط قوي لمصر ليس مع الجنوب فحسب وإنما مع الشمال أيضا وكذلك مع سبع دول أخري, ولكن المصريون يكنون مشاعر خاصة نحو السودان, فهناك رابطة أقوي من الماء إنها رابطة الدم التي جمعت ما بين آلاف المصريين والسودانيين ما بين نسب ومصاهرة وحروب مشتركة ضد المعتدين منذ فجر التاريخ. الصورة تتضح أكثر عندما نزور الجنوب ونري بأنفسنا الدور المصري فهناك المدارس المصرية والمستشفيات المصرية والعيادة المصرية ومحطات الكهرباء التي تنير مدن الجنوب والقوات المسلحة المصرية التي تعمل تحت لواء الأممالمتحدة وتقوم بدور إنساني رائع في آبيي, وفرع جامعة الإسكندرية التي مصر بصدد إنشاءها هناك. الدور المصري الواضح في الجنوب لا تلعبه الحكومة المصرية فحسب وإنما المصريين العاديين من شباب وعمال ومهندسين ورجال أعمال. وتعالوا نتعرف معا علي مصر في جنوب السودان. منذ اللحظة الأولي في الجنوب ستلتقي بمصريين بداية من طاقم الضيافة في شركة الطيران الداخلي التي تنقلك إلي جوبا, وإذا فكرت في الإقامة في أحد أشهر الفنادق هناك وهو فندق صحارا ستجد في قسم الاستقبال عبد العزيز أبن الريف المصري الذي أختار بمحض أرادته العمل في جوبا بدلا من القفز في مراكب الموت المطاطية التي يمكن أن تحمله إلي أعماق مياه المتوسط بدلا من إيطاليا, ستلتقي بمحمد الصعيدي الذي سافر هناك مع رجل الأعمال اللبناني وعندما فر الأخير هاربا قرر الصعيدي البقاء وأستطاع أن يكتسب ثقة الجنوبيين والمستثمرين وأصبحت له سمعة جيدة ودخلا طيبا أيضا. المصريين أهمه ستشعر بالفخر عندما تتعرف علي مهندسين شباب مصريين كانت لهم بصمات واضحة في اتصال الجنوب بالعالم عبر شركات المحمول فهم من يتولون تجهيز أبراج المحمول وبناءها وإعدادها للعمل ستعرف منهم كيف جابوا الجنوب شبرا شبرا وكيف عرفوه كما لم يعرفه أهله, المهندس تامر عماد الذي احتجزته مياه الفيضانات أكثر من مرة وسط الأحراش والقبائل المتناحرة وهشام الذي كان عليه السفر إلي بلدة نائية وعندما لم يوافق أي صاحب سيارة أن يقله لهناك نظرا لوعورة المكان قرر السفر لعدة أيام وليالي بموتوسيكل صغير حتي يصل للمكان ويقوم بمهمته لتصبح البلدة وللمرة الأولي قادرة علي الاتصال بالعالم عبر المحمول, أما المهندس علاء فقد أوقعه حظه العاثر أكثر من مرة تحت أيدي بعض القبائل المسلحة والميليشيات المتمردة وواجه الموت مرارا أثناء عمله. هؤلاء الشباب كان يمكنهم العمل من خلال شركاتهم في بلاد أكثر استقرارا وسهولة في الحياة المعيشية مثل النيجر أو نيجيريا ولكنهم اختاروا السودان وجنوبه تحديدا لأنهم كما قالوا لي شعروا بأن السودانيين هم أقرب شعوب المنطقة قربا منا وحتي في الجنوب فإن لغة عربي جوبا تمكنهم من التفاهم بسهولة مع الكثيرين هناك. ذكريات حرب أكتوبر في الجنوب! ومصر موجودة في قلوب الكثير من الجنوبيين حيث ستجد هناك العديد من المصريات اللاتي تزوجن من سودانيين واتخذن من الجنوب السوداني موطنا ثانيا لهم ومنهم عفاف التي تقيم في جوبا منذ أربعين عاما وأصبحت تتكلم وترتدي ملابسها علي الطريقة السودانية. في الجنوب لابد أن تلتقي بمن يقول لك لقد حارب والدي أو عمي مع مصر ضد إسرائيل فمثلا شاكر وهو شاب سوداني تحدث عن ألمه بسبب هرب زوجته بأولاده إلي إسرائيل وقال لي لا أستطيع أن أتصور كيف حارب عمي ضدهم وأولادي يعيشون بينهم ويحملون جنسيتهم. وعندما تلتقي بالفعل بمن اختلطت دمائه بدماء المصريين أثناء الحرب ضد إسرائيل ستدرك عمق العلاقة التي تربط بين الشعبين فجون ماجوت وهو كان من الهجانة في الجيش السوداني فقد شارك في حرب67 وتم أسره فيها. كما شارك في الحرب ضد إسرائيل في لبنان عام78 أما إسماعيل جيمس فشارك في حرب73 وهو كان يحدثني عن ذكرياته في الحرب وكأنها حدثت بالأمس. كما تحدثوا عن الرئيس مبارك كأحد أبرز قادة الحرب والأهم بالنسبة لهم أنهم لا ينسون أنه الرئيس العربي الوحيد الذي قام بزيارتهم بعد السلام. الحقيقة أنني اخترت أن أتحدث عن هؤلاء قبل أن أتطرق إلي الدور المصري الرسمي لنلمس كيف أن الرابطة مع الجنوب- تماما كما هي مع الشمال- ليست علي المستوي السياسي فحسب إنما علي المستوي الإنساني أيضا. العيادة المصرية إذا تحدثنا عن الوجود المصري علي المستوي الرسمي فلابد أن نبدأ من العيادة المصرية بجوبا وعنها قال رجل الأعمال المصري ممدوح سالم: بعد أحداث المهندسين والتي أحدثت شرخا في نفوس بعض الجنوبيين بسبب التعامل الأمني الصارم مع الجنوبيين في ميدان مسجد مصطفي محمود كانت هناك شعور تحفز وضيق من البعض هنا ضد المصريين حتي أقيمت العيادة المصرية في جوبا والتي ساهمت كثيرا في رأب الصدع الذي حدث, فتقريبا لا يوجد أحدا في جوبا لم يتردد علي العيادة والتي يديرها ويعمل بها طاقم طبي كامل من وزارة الصحة فلا يخرج الشخص حاملا لعلاجه ودوائه فقط وإما حاملا أثر المعاملة الطيبة هناك. اتجهت إلي العيادة ففوجئت بالطوابير التي تصطف أمام الباب وعندما التقيت بمدير العيادة الدكتور عباس فقال لي هذا المبني الصغير صار يقدم خدمة كبيرة للجنوب حيث نكشف يوميا علي ما يزيد عن ثلاثمائة حالة ونقوم بعمل التحاليل والأشعة التليفزيونية اللازمة ونمنحهم الدواء ونظرا للسمعة الطيبة للعيادة طلبت عدد من القنصليات والهيئات الدولية التعاقد معنا ولكننا رفضنا ذلك لأن الحكومة المصرية عندما أنشئت العيادة كان الهدف هو خدمة الجنوبيين وليس الربح. وفي عيادة الأطفال التقيت بالدكتور محسن الصادق الذي قال أنه يكشف علي حوالي150 حالة يوميا وهو عشر أضعاف العدد الذي يكشف عليه في عيادات مصر ولكنه أضاف نحن نشعر أن تعبنا قد زال عندما نجد نظرة التقدير في عيون الجنوبيين بعد شفاء أبناءهم فالجنوب لا تتوفر فيه خدمة صحية جيدة فأغلب العيادات الخاصة المنتشرة في الجنوب نجد من يعمل فيها ليسوا أطباء إنما مساعدي طبيب أو فنيون حيث تسمح الحكومة لهم بفتح العيادات لعدم وجود بديل يفي بكل الاحتياجات. أما الدكتورة سعاد وهي طبيبة التحاليل في العيادة فتقول أن معمل التحاليل لا يوجد له مثيل في كل الجنوب فبجانب التحاليل المعتادة هناك تحاليل الهرمونات والإيدز والذي كان المريض يضطر للسفر إلي أوغندا أو الخرطوم لإجرائها. أما الدكتورة الصيدلانية أماني فتشير إلي أن الحكومة المصرية تقوم بتوريد8 طن دواء للعيادة وذلك كل6 أشهر مراعية فيها الأمراض الأكثر انتشارا في الجنوب. وليست العيادة هي المساهمة المصرية الوحيدة في جوبا ولكن هناك المدرسة المصرية وهي مدرسة ضخمة تم إنشاءها علي أطراف جوبا وهي موثقة بالكامل بما فيها غرف لإقامة المدرسين وبشكل أفضل حتي من بعض المدارس في مصر وعندما عبرت لناجي التهامي وهو أحد العامين في شركة المقاولين العرب والذي كان مشرفا علي بناء سور للمدرسة فقال لي لابد أن تكون المدرسة علي أحسن مستوي لتتناسب مع أنها تحمل اسم مصر. وإذا كانت هناك إسهامات من دول عربية في جوبا مثل الكويت وليبيا فإن مصر تتميز بأنها اهتمت بالتنمية في مختلف الولايات وحرصت علي أن تقوم بها تحت أشراف شركاتها لتضمن إتمامها علي أحسن مستوي رغم المخاطر التي يتحملها المهندسون والعاملون في تلك المناطق ففي ولاية جونجلي أحد أكثر الولايات التي تشهد صراعات مسلحة تقوم مصر ببناء مدرسة في أحد المدن النائية وهي مدينة ورور حيث يقيم المهندس محمود والعاملين معه في ظروف قاسية حيث لا مياه نظيفة أو كهرباء إلا بالمولدات وحتي التليفون لا توجد وسيلة اتصال سوي( الثريا) أما في مدينة بور فبالقرب من مستشفي بور العام تقيم مصر مستشفي علي أعلي مستوي كما شرح لي المهندس أشرف عزت وهو يصطحبني في جولة بالمستشفي والتي ستضم التخصصات المختلفة ومكيفة بالكامل وفيها سكن للأطباء والممرضات وسيتم تجهزها بأحدث الأسرة والأجهزة الطبية ويضيف موضحا كان من المفترض أن نكون قد انتهينا من بناء المستشفي ولكن ظروف الاقتتال الدائر في الولاية قطع الطرق وجعلنا معزولين لعدة أشهر ولكننا سننتهي منها قريبا. والحقيقة أننا حتي نتعرف علي أهمية تلك المستشفي يكفي أن نزور المستشفي العام لنري بأنفسنا كيف ينام المرضي علي الأرض ولا يقوم بمباشرة علاجهم سوي الممرض في ظل ظروف تلوث بنسبة100% حتي في الجزء الخاص بمرضي الإيدز والمفترض أنه تحت أشراف اليونيسيف فإنك لا تستطيع الوقوف فيه لثوان من شدة التلوث ورائحة المرض والموت التي تحيط بالمكان حتي الأدوية تجدها ملقاة أمام المستشفي حيث يبدو إنها لم تجد العناية الكافية ففسدت في الشمس والحقيقة أنني سألت مدير مستشفي بور العام عن السبب في إلقاءها بهذا الشكل فقال أن المؤسسات الدولية تحضر لنا الأدوية قبل ميعاد انتهاءها بفترة قصيرة بالإضافة إلي أن معظمها لعلاج أمراض غير منتشرة في الجنوب لذلك يكون مصيرها كما رأيت. مشروعات مصر في بور لم تنتهي بعد فهناك محطة كهرباء ستكون الأولي في ولاية جونجلي بأسرها لتكون بديلا عن المولدات الكهربائية التي لا يقوي علي شرائها سوي الأثرياء وهذه المحطة من المشروعات الهامة التي تنتظرها الولاية بفارغ الصبر وذلك كما أخبرني كوال مدينق حاكم الولاية وخصوصا بعد مشاهدة أثر المحطات الكهربائية الأخري التي أنشأتها مصر في مدنية( واو) علي سبيل المثال والتي شجعت بعض الشركات علي العمل والاستثمار هناك. مصريين المهام الصعبة منذ أن وصلت إلي الجنوب وجدت أن الجميع يتحدث عن القوات المصرية التي تعمل تحت لواء الأممالمتحدة في ولاية جنوب كردفان حيث تتولي مصر قيادة القطاع الرابع لقوات اليونيممس في السودان والذي يضم مراقبين من36 دولة. ولأن تلك الولاية هي ولاية التماس ما بين الشمال والجنوب فإن هذا القطاع يقدم خدمات للجانبين الشمالي والجنوبي, والحقيقة أنني منذ أن وصلت إلي كادوجلي شعرت بحميمية خاصة في حديث الأهالي معي بسبب الدور الإيجابي الذي تلعبه تلك القوات, سمعت اسم العميد محمد أيمن قائد القطاع آنذاك يتردد أكثر من مرة أمامي سواء من المسئولين هناك أو من الناس العادية الذين يعتمدون علي المستشفي المصري بشكل أساسي في علاجهم والذي يعد أكبر مستشفي تابع لقوات حفظ السلام في الجنوب حيث تستقبل المستشفي حوالي10 ألف حالة كل شهر وتجري مئات العمليات الجراحية ويوجد بها طاقم طبي وتمريضي كامل من القوات المسلحة المصرية. ولا يقتصر دور القوات علي هذا الجانب فقط ولكن هناك خدمات أخري تقدمها مثل توفير مياه الشرب للقري النائية حيث يستفيد السكان من ثلاثة أطنان من المياه يستخرجها القطاع يوميا من بئر شعير. و قد ذكر لي بكر دلدوم عمدة أحد قبائل النوبة التي تقيم في المنطقة أن الخدمات التي تقدمها القوات المصرية تختلف عن التي تقدمها قوات الدول الأخري التي تعمل تحت لواء الأممالمتحدة في القطاعات المختلفة حيث تلمس الخدمات المصرية احتياجات الناس أكثر, فهي تشارك في تمهيد الطرق كما قامت بإزالة الألغام التي كانت كثيرا ما تنفجر في المواطنين أوفي أبقارهم وكما علمت فإن القوات المصرية أزالت أكثر من122 ألف لغم من بين186 كانوا في المنطقة وهو ما لم تقوي عليه قوات الدول الأخري التابعة لحفظ السلام والموجودة في الأماكن الأخري المزروعة بالألغام. مصر في آبيي والحقيقة أن زيارة القطاع الرابع تشعرك بالفخر بالدور المصري أما الأمر الذي فوجئت به هو أن القوات المصرية لديها وحدات تعمل منذ فترة وجيزة في منطقة آبيي وذلك في قطاع أخر والذي ترأسه القوات التابعة لزامبيا والمشاركة في قوات اليونيمس. وبالطبع حرصت علي زيارتها وخصوصا بعدما تحدث معي الكثيرين عن ما قامت به, فإدريس شهدي وهو مغربي يعمل مع الأممالمتحدة منذ خمس سنوات في السودان يشهد للمصريين ويقول لقد حققت القوات المصرية في آبيي إنجازا غير مسبوق دفع قائد اليونيمس العام لزيارة آبيي لشكرهم وللتعرف علي الكيفية التي أتموا به عملهم, حيث قامت القوات المصرية بقيادة العقيد فتحي قرقورة والمقدم طارق بإزالة الألغام من المنطقة المحددة للقوات الدولية في وقت قياسي يقل بكثير عن المتعارف عليه من كل القوات المشتركة في قوات حفظ السلام, بخلاف المستشفي التي تم إنشائها هناك والتي تقدم خدمات كبيرة لسكان آبيي المحرومين من أي تنمية بسبب الحروب الدامية والتي كانت مستمرة حتي العام الماضي. والحقيقة أنك لابد وأن تشعر بالفخر وأنت تري الضباط المصريين يقدمون خدماتهم لأهل آبيي بطريقة أكثر إنسانية من العديد من المؤسسات الدولية التي تقدم المساعدات وذلك بشهادة الأهالي أنفسهم, كما أنك لابد وأن تجتاحك مشاعر الحنين إلي مصر وأنت تشاهد المسلة والأهرامات المصرية التي تزين مدخل المعسكر والتي تقول أن الإنجاز الذي تحقق هنا صنع بأيدي مصرية. جامعة الإسكندرية في الجنوب نياين دينج مالك السيدة الوحيدة التي استطاعت الفوز بمنصب الحاكم في ولايات الجنوب العشرة وذلك في الانتخابات الأخيرة حيث أصبحت حاكمة ولاية وراب وهي مسقط رأس الرئيس سيلفا كير وإذا كان اختيار سيدة في هذا المنصب هو مصدر فخر للجنوبيين فإننا لنا نصيبا من هذا الفخر فنياين خريجة جامعة الزقازيق ولديها مخزون ذكريات ضخم عن مصر, عندما التقيت بها قالت لي لا أنسي أيام دراستي في جامعة الزقازيق فهناك كثير من الجنوبيين تعلموا هناك لدرجة أنهم قاموا بعمل رابطة باسم خريجي الزقازيق, وتضيف نيايج هناك صعوبة بالغة في تعليم النساء بسبب الحرب وهو ما ترتب عليه أن90% من الجنوبيات لم يتعلمن حتي الآن, وتكمل حاكمة وراب والتي كانت تشغل من قبل منصب وزيرة التعليم في الولاية قائلة من أهم الأشياء التي أسعي لإتمامها بعد أن توليت منصبي هو افتتاح فرع جامعة الإسكندرية والمقرر إنشائه في الولاية, أيضا أتمني أن أستطيع عمل اتفاقات في المجال الزراعي مع مصر فأنا لا أنسي شكل الأراضي الزراعية في الزقازيق وأعتقد أننا يمكن أن نستفيد كثيرا من الخبرات المصرية سواء حدث انفصال أم لا وعندما سألتها عن رأيها الشخصي في هذا الأمر فردت سريعا الانفصال هو الحل حتي يكون مصيرنا وقراراتنا في أيدينا. الحلقة الأخيرة الري المصري في الجنوب قناة جونجلي حقيقة التغلغل الإسرائيلي في الجنوب